كتب عاصم نعمان في “القدس العربي”:
تزداد ازمة لبنان تعقيداً بأحداث كارثية متناسلة، كان آخرها اندلاع تظاهرات للمقهورين والجائعين تسلل إليها مخربون ذوو صلات خارجية، تعمّدوا إحراق مبنى بلدية طرابلس، وقسماً من السراي وتسبّبوا بسقوط عشرات القتلى والجرحى.
تظاهرات مماثلة أقل ضرراً عمّت مناطق أخرى في بيروت وساحل جبل لبنان الجنوبي وجنوب لبنان. التظاهرات الدموية والتخريبية أجّجت الخلاف والتراشق بالاتهامات بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف تأليف الحكومة سعد الحريري، ما جعل تأليفها مستعصياً، وانزلاق البلاد إلى حالٍ من الفوضى والتسيّب أمراً واقعاً. تعددت المحاولات الرامية إلى ترسيم مخرج من الأزمة المستعصية، كان آخرها مقالا لرئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة، يدعو فيه إلى اعتماد اتفاق الطائف لعام 1989 وتفعيله طريقاً للخروج من المحنة.
صحيح أن المنظومات الحاكمة التي تعاقبت على السلطة منذ إقرار اتفاق الطائف تعمّدت عدم تنفيذ بنوده، لكن الأصح أن الاتفاق المذكور جرى توليده بفعل ثلاثة عوامل: الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد من 1975 لغاية 1990، وتدخل قوى خارجية (سوريا والسعودية كما أمريكا) وحرص أقطاب نظام المحاصصة الطوائفية على حماية مصالحهم ونفوذهم في النظام السياسي المراد إعادة إنتاجه في مرحلة ما بعد إنهاء الحرب الأهلية. من هنا فإن دعوة السنيورة إلى اعتماد اتفاق الطائف وتفعيله كمخرج من حال الاستعصاء السياسي الراهن، لا تعدو كونها محاولة لإعادة إنتاج نظام المحاصصة الطوائفية، بتشكيلات وأدوات سياسية جديدة.
قبل دعوة السنيورة الأخيرة، وفي موازاتها ظهرت وتنامت دعوات وحركات إصلاحية متعددة، محورها المركزي إسقاط نظام المحاصصة الطوائفية، وإجلاء المنظومة الحاكمة عن السلطة، تسهيلاً لولوج مسار تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية. كيف؟ لستُ وغيري كثيرون، ممن تهمهم دعوة السنيورة المستجدة ومثيلاتها، لكونها مجرد مقاربة لإعادة إنتاج النظام الطوائفي الفاسد، بحلة جديدة تندرج في ما يمكن اعتباره مزيداً من الشيء نفسه. ما يهمنا هو ولوج مسار التغيير والإصلاح مع مراعاة الاعتبارات الآتية:
أولها، الإحاطة بالظروف القاسية التي تمرّ بها البلاد، ولاسيما لجهة استعصاء الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واقترانها بضغوط خارجية، تواكب اعتزام إدارة الرئيس الاميركي جو بايدن إعادة تشكيل منطقة غرب آسيا على نحوٍ يصون مصالح الولايات المتحدة ودورها القيادي من جهة، ويحمي أمن «إسرائيل» من جهة أخرى.
ثانيها، ازدياد الانسداد السياسي المتمثل بعجز أطراف المنظومة الحاكمة عن تأليف حكومة جديدة لمواجهة الانهيار المالي والاقتصادي، وتعثر التحقيق الجنائي في قضية تفجير المرفأ، نتيجةَ ما سماه الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون «التحالف بين الفساد والترهيب».
ثالثها، انشغال أطراف المنظومة الحاكمة بتعزيز مصالحهم السياسية والاقتصادية في ضوء استحقاقات ثلاثة: الانتخابات النيابية في أيار 2022، وخلوّ سدة الرئاسة مع انتهاء ولاية الرئيس عون في اواخر تشرين الأول 2022، وسعي بعض القوى السياسية إلى تأمين السيطرة على قرار مجلس الوزراء للتحكم بالاستحقاقين آنفي الذكر.
غير ان الاعتبار الأكثر أهمية هو استحالة إنجاز إصلاحات جذرية ناهيك من ثورة في بلد تعددي دفعة واحدة، ما يستوجب ضرورة التوصل الى تحقيق مطلب الدولة المدنية الديمقراطية، في سياق ديمقراطي وتدريجي. ذلك يستوجب بدوره اعتماد استراتيجية لتكوين عقد وطني جديد يقره اللبنانيون أنفسهم باستفتاء شعبي وتُحقق بنوده القوى الوطنية على مراحل، بعضها للمدى القصير وبعضها الآخر للمديين المتوسط والطويل ، وذلك على النحو الآتي:
أولاً، مواجهة الأزمة المزمنة: في المدى القصير يقتضي اعتماد وسائل الضغط السياسي والشعبي على أطراف المنظومة الحاكمة، لحملهم على تسريع تأليف حكومة وطنية جامعة من سياسيين مستقلين واختصاصيين غير حزبيين تتصدى للمهام الآتية:
تأمين ضروريات المعيشة الأساسية كالقمح والدواء والكهرباء والبنزين والمازوت، والارتقاء في مواجهة جائحة كورونا.
تفعيل إجراءات التحقيق الجنائي في كارثة مرفأ بيروت.
إقرار قانون جديد للانتخابات على أساس لبنان دائرة وطنية واحدة؛ التمثيل النسبي؛ خفض سنّ الاقتراع إلى الثامنة عشرة؛ تنفيذ المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف، والضغط على مجلس النواب لإقراره في مهلة قصيرة.
ثانياً، اعتماد الاستفتاء الشعبي للتغيير والإصلاح: في المدى المتوسط، في حال تعذّر إقرار قانون الانتخاب الجديد في مجلس النواب، يُصار إلى تفعيل الضغوط الشعبية بغية حمل الحكومة القائمة، أياً تكون، لحملها على عرض قانون الانتخابات الديمقراطي وإقراره باستفتاء شعبي، عملاً بنظرية الظروف الاستثنائية، التي تقضي بأن الظروف الاستثنائية تستوجب تدابير استثنائية. والمأمول والأرجح أن مجلس النواب المنتخَب على أساس قانون الانتخاب الديمقراطي الجديد سيكون بمثابة مجلس تأسيسي مؤهل لإرساء قواعد الدولة المدنية الديمقراطية.
ثالثاً، مواجهة تفكيك لبنان إلى كيانات: في المدى الطويل، تحسباً لاحتمال تهاوي النظام الطوائفي، واستشراء الفوضى وتفكيك البلاد إلى كانتونات تتولى القوى النافذة فيها مقاليد السلطة والإدارة والأمن، يقتضي توحيد جهود القوى الوطنية لتحقيق مهمتين:
توسيع قاعدة الائتلاف الشعبي العريض المناهض للنظام الطوائفي الفاسد من جهة وللتشكيلات السياسية والعسكرية العاملة لإقامة نظام كونفيدرالي في البلاد من جهة أخرى، من أجل دعم قوى المقاومة ضد الإسرائيليين، والعمل على استعادة وحدة البلاد السياسية في إطار دولة مدنية ديمقراطية.
تعزيز الجهود من أجل تكوين أكثرية متجانسة في مجلس النواب، تتبنّى الأهداف والمطالب المشار إليها آنفاً.
تبادر القوى الوطنية الحيّة إلى العمل الجاد المتواصل، وألاّ تتسبّب بتقصيرها المخزي بالحكم على البلاد والعباد بالتفكك والتشرذم والتبدّد.