كتبت ساندي الحايك في “نداء الوطن”:
“الدم برقبتن كلن”، هكذا صرخ عبد الرحمن بمجرد أن اقتربت منه. هو واحد من المحتجين المرابطين ليل نهار وسط ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس. يقضي وقته متنقلاً بين شوارع المدينة وأحيائها، يتأملها، يلتقط الصور لها، إذ يُزعجه “مصادرة صوتها” عبر قرار الإقفال العام على حد تعبيره. بالنسبة اليه “لا يليق بطرابلس هذا الصمت. ميزة المدينة بأسواقها، بضجيجها، بزحمتها، بأصوات بائعيها التي تختلط ببعضها البعض. طرابلس مرادف لتلاقي الناس مع بعضهم البعض. هي الخانات وسوق القمح والتل.
“باتت المدينة غريبة عن نفسها بسبب هذا الإقفال”. يعاجلني عبد الرحمن بالجواب قبل انتهائي من سؤاله “ماذا عن كورونا؟” قائلاً: “ليس كورونا المرض الوحيد المعدي، وإن سلّمنا جدلاً بضرورة إقفال البلد دعينا نسأل عن النتيجة. منذ ما يزيد عن شهر والبلد مقفل ولكن أعداد الإصابات لم تنخفض. وهذا لا يُفسَّر إلا بشكل واحد، وهو أن أثرياء هذا البلد يعيشون حياتهم على طبيعتها. يقيمون الحفلات في القصور والشاليهات التي يملكونها. يسافرون ويعودون وكأن كل شيء على ما يرام. لا أحد يتأثر سلباً من هذا الإقفال سوى فقراء البلد وفقراء طرابلس على وجه الخصوص”. يصمت وكأنه تذكر أمراً ما. للحظات يبدو أن الشاب العشريني لم يعد حاضراً ها هنا. يُلقي تنهيدة طويلة ثم يردف: “العالم جاعت. هيدا ليس شعاراً بل جملة عادية قد لا تُعبر حقيقة عن واقع المدينة”.
يروي عبد الرحمن ما حدث بين سائق تاكسي وأحد الضباط عند حاجز لقوى الأمن الداخلي أقيم في شارع الجميزات. وصل سائق التاكسي إلى نقطة الحاجز وفي سيارته راكب واحد. سأله الضابط: “يا عمّ معك إذن حتى تمشي؟”، فأجابه السائق الستيني: “لا يا سيدنا ما معي تلفون. بعت تلفوني من كم يوم”. ليرد عليه الضابط: “يا عمّ ممنوع في إقفال عام بالبلد. كيف عم تشتغل وتطلّع ركاب. هيك بيصير بدنا نعملك ظبط”. ضحك سائق التاكسي ثم أجاب: “أنا ما عم بشتغل يا سيدنا. أصلاً ما في ناس على الطرقات ليمشي الشغل. أنا بس بدي طلّع ألفين ليرة حق ربطة الخبز لأولادي”. يختصر عبد بهذه الرواية واقع الحال. بالنسبة إليه فإن ما تعانيه طرابلس يحتاج إلى ثورة “تشيل وما تخلي”.
عاصمة الفقراء
لا شكّ أن طرابلس ليست المدينة الوحيدة التي ألمّت بها الأزمة الاقتصادية الحادة في البلاد، إلا أنها المدينة الأكثر تضرراً. فالإهمال الذي تعاني منه عاصمة الشمال والذي أدى إلى تصاعد خطاب العنف ضد الدولة ومؤسساتها عمره من عمر المدينة. اعتمدت الدولة اللبنانية سياسة إدارة الظهر للمدينة وأبنائها، وفي أكثر من محطة تم استغلال هذا الفقر وتوظيفه لخدمة أجندات معينة، حتى اصطلح على تسمية طرابلس بأنها “صندوق بريد”، تُمرر عبرها الرسائل في أكثر من اتجاه، وليس ما حدث من جولات حرب بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة إلا كدليل قاطع على ذلك. ورغم صدور العديد من التقارير التي أكدت مراراً وتكراراً ارتفاع معدلات الفقر شمالاً، لم تقدّم الدولة اللبنانية أي خطة لانتشال المدينة مما هي فيه.
فبحسب التقرير الأخير للبنك الدولي في العام 2018، فإن الشمال يضم الاكثرية المطلقة من عدد الفقراء في لبنان، ما يعادل نحو 290 الفاً أو ما نسبته 36 في المئة من عدد اللبنانيين المعدمين، وهو معدل أعلى بكثير من المعدل الوطني. ويلفت التقرير إلى أن نحو 90 في المئة من العاملين في العاصمة الثانية، يعملون في قطاع غير رسمي (أو غير قانوني). وهم غير مسجلين في الضمان الاجتماعي، ويشكّلون نحو 38 في المئة من القوة العمرية العاملة من سكان طرابلس. ويقول التقرير إن الشمال يواجه ضعفاً قوياً في الاقتصاد الذي يراوح ما بين زراعي وعقاري (يتركز ذلك في الأقضية المحيطة بطرابلس، فيما الصناعة والتجارة والخدمات مركزة في العاصمة الثانية)، معطوفاً على أوضاع سياسية واجتماعية غير آمنة، وهو ما جعله بيئة لـ”تهريب الاستثمارات والكفاءات إلى الخارج”. كما أن ضآلة مشاريع الاستثمار تتسبب في خفض نسبة التوظيف، بحيث يفوق عدد طلبات العمل حجم العرض.
دولاران في اليوم
يعود عبد الرحمن إلى نقطته المفضلة في وسط ساحة النور. يقترب من “القهوجي” المتنقل. يحمل فنجان قهوته ويتمتم: “خبرها للأستاذة كيف عم تشتغل بالإقفال العام”. يضحك القهوجي ويجيب: “نحن بطرابلس عايشين من قلّة الموت”، مضيفاً: “فنجان القهوة صار حقو ألف ليرة، يعني لازم بيع 20 فنجان حتى طلّع 20 ألف ليرة، يلي هي دولارين بهالأيام. معقول في حدا بيتجرأ يسألني ليش عم تشتغل!”. يضع عبد الرحمن سيجارة بين شفتيه ويضحك على كلام القهوجي الذي يضيف: “لك حتى الدرك هني يلي بيشتروا مني قهوة. واقفين كل النهار على قصب إجريهم. ما كل واحد همّو على قدو بهالبلد”.
الوجع هو الشيء الوحيد المشترك بين كل أبناء المدينة، رغم اختلافهم في طريقة التعبير عنه. يسند عبد الرحمن ظهره على بوابة أحد المحال المغلقة. يصمت برهة. ثم يدندن. يحاول كتابة شعارات يخطط أن يرددها في التظاهرات المقبلة. لعبد قصة غير استثنائية في المدينة على الرغم من مأسويتها. والده كان موظفاً في شركة توزيع لكنه خسر عمله بسبب حادث سير تعرض له وأدى إلى كسور في الظهر، لم يعد على أثرها قادراً على السير أو الحركة. التزم الرجل المنزل وانقطع مصدر الدخل الوحيد للعائلة. كان عبد الرحمن وشقيقه لا يزالان في المدرسة. بعد تردي أوضاع العائلة اضطر عبد، لكونه الأكبر سناً، أن يترك الدراسة ويبدأ العمل في أحد المقاهي في طرابلس. منذ سنوات عانت أمه من آلام حادة في المعدة. قاومت كثيراً ورفضت إدخالها المستشفى مراراً خوفاً من المبالغ المالية التي سيُضطرون إلى دفعها لغياب الضمان الصحي. إلى أن اضطرت إلى ذلك، واكتشف بكرها إصابتها بالسرطان. أضيف ثقل آخر على كاهله. ترك أخوه المدرسة بعد رسوبه عدة مرات. التزم البيت إذ لم يجد أي فرصة عمل في المدينة. ما يجنيه عبد الرحمن لم يكن يوماً كافياً. حاول الشاب أن يسد الحاجة لكنه فشل. لطالما شعر بالضعف والعجز. قبل أربعة أعوام تقريباً تلقى عبد الرحمن أول اتصال من مخفر التلّ حيث أبلغه الدركي المناوب القبض على شقيقه بتهمة السرقة. “بكيت حتى الاختناق في تلك الليلة”، يقول الشاب.
ويضيف: “أخي ليس سارقاً. ليست تربيتنا ولا أخلاقنا… لكنها الحاجة”. توجه عبد الرحمن في ذلك اليوم لجمع المال ليدفع كفالة مالية يُخرج عبرها شقيقه من السجن. لكن الأمر عاد وتكرر. أقدم أخوه على السرقة مجدداً. “هذه المرة لم يكن باستطاعتي أن أراكم المزيد من الديون عليّ. توجهت إلى مكتب أحد السياسيين في المدينة وتوسلتهم أن يساعدوني في إطلاق سراح أخي. وهكذا كان. في حينها لم أكن أعي أن هذا الدين أخطر من الدين المادي”، يقول عبد الرحمن. منذ أسبوعين عاد شقيقه إلى السجن. سرق أربعة عواميد إرسال تعود لإحدى الإذاعات الطرابلسية، وباعها بثمن بخس، في حين أن كل واحد منها يساوي ألفين ومئتي دولار أميركي. نُقل أخوه إلى مخفر القبة نتيجة للتخمة بأعداد الموقوفين في المخافر الأخرى.
عبد الرحمن عينة عن الكثير من العائلات الطرابلسية التي قد يدفع الفقر بشبابها لارتكاب المحظور. وبالنسبة للمتعبين من أبناء المدينة، فإن العنف أقل ما يمكن للتعبير عن الغضب المكبوت فيهم. مفاعيل هذا الغضب تظهر بوضوح في باحة السراي في المدينة. هنا لا حضور يطغى على رائحة حريق الإطارات التي سبق واشتعلت في المكان ومحيطه. أجزاء منها تطايرت في أكثر من زاوية. البوابة الحديدية للسراي شاهدة على المواجهات التي وقعت مع المحتجين أيضاً. على الرصيف أمامها حجارة تفترش الأرض، لا بد أنها استخدمت في رشق القوى الأمنية. المنازل المحيطة لم تلحق بها أي أضرار مادية، لكن الضرر المعنوي حاضر بقوة، بحسب أحدهم: “أغلقنا النوافذ بإحكام. بتنا مثل الفئران نختبئ إلى أن تهدأ الأمور، فنطل برؤوسنا من الشبابيك”.
على الرغم من أن معظم الطرابلسيين اعتادوا العنف وأصوات الرصاص، إلا أن المدينة لم تعد تحتمل على حد قول السيدة هدى، التي تقطن في أحد المباني الواقعة في كرم القلة. أي أنها قريبة من ساحة عبد الحميد كرامي حيث وقعت المواجهات الأولى، وكذلك قريبة من شارع مبنى بلدية طرابلس، حيث انتقلت المواجهات بين المحتجين والقوى الأمنية في اليوم الأخير. تقول: “في البداية سمعنا صراخ المتظاهرين في الشارع. قال لي زوجي ان الليلة لن تمضي على خير ما يرام. سارعت إلى الشرفة وجمعت الغسيل الذي كنت قد نشرته قبل وقت قليل. أغلقت النوافذ بإحكام وأدرت التلفاز. من الممكن القول إننا لم نَنَم خلال هذا الأسبوع ولا حتى ساعة واحدة. فالضرب والرصاص من حولنا وكأنه داخل البيت”.
مشهد البلدية هو الأكثر إيلاماً. لم يبق شيء من المكان. احترق الطابق الأول بكل ما فيه. الكراسي والطاولات والنوافذ الخشبية القديمة والملفات التي خطت عليها أسماء عائلات وعاملين وأُسر. كلها تبخرت. معظم المارة في طرابلس يتوقفون أمام البلدية. يلقون نظرة فيها الكثير من الحسرة الممزوجة بالغضب. للبلدية دلالة كبرى في المدينة، ولاحتراقها أيضاً دلالة لا تقل أهمية. بالنسبة إلى البعض إن السعي المستمر للتعرض إلى مؤسسات الدولة في المدينة لا يُبشر بالخير، وكأن هناك من يريد إحراجها لإخراجها. الطرابلسيون يجتمعون حول القلق الدائم من مصيرهم المجهول، لكنهم يختلفون على طريقة التعبير عنه. فهل طرابلس مقبلة على عنف اشد وطأة أم ستعود عروساً تتغنى بسلمية أبنائها؟