كتب علي الأمين في “نداء الوطن”:
من يقف متفرجاً على خراب لبنان، لا يحق له ان ينصر مدينة على أخرى، الا اذا كان “كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”… الأمر الذي لم يحصل طبعاً. فعندما ينعق الغراب فوق خراب طرابلس، سرعان ما يمضي في سبيله، ليحط في موقعة أخرى.. وهكذا ينعق دواليك!
لا يمكن تفسير الحمية اللبنانية على طرابلس “عروس الثورة” من بعض أبنائها وأبناء المدن الأخرى، الا من باب المزايدة والخوف من المصير عينه. فهذه المدينة العظيمة المظلومة، لم يرف لها جفن قط، قبل احتراقها، اي قبل وصول ألسنة النار الى من يستنكر ويندد وينوح على الخزان السني “المثقوب”، أو “يُعنتر” الى حد التلويح بحمل السلاح للدفاع عن نفسه ومصالحه لا عن أبناء مدينته، او “التنطح” لإغاثة الحجر في مبنى بلدية طرابلس، الذي لا شك يشكل خسارة فادحة لتاريخ المدينة وإرثها العمراني، من دون اقامة اي وزن للبشر أو صرخات الجوع التي تتفجع في ارجاء المدينة. التوقيت هو الأصل والنية، فلو بادر احد الغيارى طوعاً، وقبيل لهب نار الفاقة والعوز، الى مد يد المساعدة بمبلغ لا يتجاوز ربع ما قرروا صرفه على الترميم وبذلوه في “صيانة” كرامة فقراء طرابلس، بدل ان يغذوهم بالسلاح لفتح جبهات وجولات عقيمة، لما حصل ما حصل. وبصرف النظر عما جرى، فألسنة النار السوداء من اي جهة أتت، لا يمكن أن تعتم على الواقع المزري لهذه المدينة الثائرة، منذ 17 تشرين وقبله، والصابرة على بلواها السياسية والمعيشية والأمنية. غير ان الكثير من رموز المدينة و”ملحقاتها” آثروا تنصيب انفسهم “ولاة” على المدينة، وهم لا يرفدونها الا بالمزيد من الإفقار والمنة المذلة، على فتات لا يقي العصافير شر جوعها.
أكثر حيوية في مسار الانتفاضة
وبعيداً من تكرار المكرر واستنكار المستنكر، المنادي برفض “العنف الثوري” الذي ضاعت ملامحه بين الجوع والغوغاء، والذي يخرج عن طوره “على حين غرة”، و”الأفعال النيرونية” بحرق الرمز الأثري والرسمي والبلدي للمدينة، تبقى الأسئلة المدوية، بأي ذنب يُقتل أبناء مدينة الفيحاء، ولماذا تتحول الى ارض لتصفية حسابات سياسية وعسكرية وأمنية و”رئاسية” مستجدة، عبر إيقاظ فتنة لن تسلم جرة وأدها كل مرة، والى متى يرفع السياسيون القدامى والجدد أياديهم عنها؟!
فقد كشفت احداث طرابلس الأخيرة عن حقائق جديدة ومتجددة باتت اكثر وضوحاً من السابق، فالاحتجاجات التي شهدتها المدينة منذ منتصف الاسبوع المنصرم، اظهرت ان مدينة طرابلس هي الأكثر حيوية في مسار الانتفاضة ويصح فيها القول انها عاصمة الانتفاضة، مهما اختلف المراقبون في توصيف ما جرى فيها، ومنها الاعتداءات التي طالت ابرز معلمين في المدينة، المحكمة الشرعية التي تختزن في ارشيفها تاريخ المدينة الاجتماعي والديني للمسلمين في المدينة والشمال على وجه العموم، ومبنى بلدية طرابلس التاريخي والذي لا يزال يشكل من خلال ما يعنيه ويمثله عنصراً حيوياً ومتقدماً في مسار المدينة العمراني، وعنواناً لصورة طرابلس السياسية والاجتماعية، وعليه لا يمكن تفادي هذا البعد في مشهد التحركات الشعبية التي شهدتها المدينة، وعدم رصده في اي محاولة لتوصيف ما جرى وتحليل ابعاده، وفي الموازاة يمكن رصد جملة نتائج ومؤشرات في مسار انتفاضة الطرابلسيين في آخر مشاهدها وليست الأخيرة بالطبع:
1- هذه المدينة المنكوبة، منكوبة بكل قياداتها ورموزها السياسيين والدينيين وهي كشفت اخيراً عن ان انينها ووجعها لا يجدان من ينصت اليهما من كل من يتصدرون الواجهة السياسية والدينية.
2- على رغم ان حيوية الانتفاضة التي انطلقت مع 17تشرين، قد جعلت المدينة تحتل مرتبة “عاصمة الثورة” بجدارة فقد عجزت الانتفاضة عن ان تشكل اطاراً تنسيقياً يعبر عن ارادة المشاركين فيها، ويدير تحركاتها في الهدف والتوقيت، وهو ما نجحت اطراف السلطة واجهزتها في اجهاضه من خلال اجهاض العديد من المحاولات التي جرت على هذا الصعيد، وبوسائل خبيثة فيها من الترهيب القضائي والأمني اكثر من الترغيب.
3- كشفت الأحداث الأخيرة ايضاً، مزيداً من انفراط عقد السلطة ومنظومتها، وظهر ذلك من خلال العجز عن التعامل مع ازمة المدينة برؤية تتسم بالحدّ الأدنى من المسؤولية، اذ كيف يمكن فهم ان يتخذ قرار منع التجول والاغلاق التام من دون القيام بأي مبادرة اجتماعية في مدينة تضم افقر مناطق لبنان واكثرها بؤساً؟
4- غياب المرجعية في المدينة مترافقاً مع اختراقات امنية وحزبية من خلال استثمار الترهيب عبر تحريك ملفات امنية وقضائية “غب الطلب” تجاه عدد كبير من الناشطين، فتح المجال لاعادة استخدام المدينة لغايات سياسية محلية واقليمية، وهذه المرة في سياق الصراع بين اطراف السلطة، اذ لم يعد خافياً ان معركة رئاسة الجمهورية تتطلب انهاء واقصاء قائد الجيش جوزف عون عن المنافسة بعد اسقاط ورقة رياض سلامة كمرشح محتمل، والنيل من قائد الجيش يتم عبر تلويثه بالدم اللبناني، وهذا ما يناسب الوزير السابق جبران باسيل بالدرجة الاولى، ويتقاطع مع مرشحي الممانعة الذين يحظون برعاية “حزب الله” وادارته السياسية، فعملية توريط الجيش ستستمر ولن تتوقف طالما ان هذه المؤسسة لم تزل متماسكة.
5- محاولة بعض اركان السلطة نقل السجال السياسي والاجتماعي، من سجال بين الناس والسلطة الى سجال يأخذ طابعاً امنياً، حيث كان جليّاً في الايام الماضية غياب اي مسؤول سياسي عن مواجهة منطق المحتجين سياسياً، فلا رئيس الجمهورية قال كلاماً يرتقي الى مستوى الأزمة، ولا سواه من الذين يمسكون بمقاليد السلطة الفعلية، بل كان السعي الدؤوب متركزاً على نقل السجال نحو مساحة اخرى هي الجيش والقوى الامنية والمحتجين، ومحاولة تركيز المسؤولية في هذا الحيّز الذي يريح اقطاب السلطة ويعفيهم من المسؤولية.
اذا كانت هذه بعض الجوانب التي امكن الاشارة اليها وتعدادها فان ما جرى في الميدان والذي لم يكن بمنأى عن الاستثمار السياسي، الا انه كشف عن مخاطر غير محسوبة، دفعت الى التهدئة او الهدنة من قبل منظومة السلطة او من يديرها ويؤثر في مساراتها، خصوصاً حين بدا ان التفاعل مع احداث المدينة لم يأخذ بعداً متطرفاً على الصعيد المذهبي، على رغم محاولات جرت في صيدا وفي بيروت كانت الغاية منها اثارة الحفيظة لدى السنة ورفع شعار المظلومية الطائفية، هذا ما لم يحصل على رغم محاولات تظهيره وتحريكه من قبل جهات حزبية ورسمية على ضفة الممانعة، فالتضامن مع طرابلس وانتفاضتها اقلق منظومة السلطة، لكونه لم يتجه نحو منحى شيطنة المنتفضين ولا باتجاه الجيش، انما صدى الانتفاضة بات ينذر بانتفاضة لبنانية ترى بوضوح ان الداء في هذه السلطة ومنظومتها الحاكمة والمتحكمة.