كتبت زيزي اسطفان في صحيفة الأنباء:
فيما أطفال العالم يجلسون خلف شاشاتهم الصغيرة ليتعلّموا عن بُعد ما منعت جائحة «كورونا» تَعَلُّمه في غرف الصف وسط الأتراب والأصدقاء، ينزوي أطفال لبنان في بيوتهم خائفين مذعورين تملأ الكآبة أماكنهم وتحتلّ أخبار المصائب ما يسمعونه من حولهم من أحاديث ويرونه على شاشاتهم من صور قاسية وإنذارات بالموت الوشيك. تغيب عن أيامهم فرحةُ الطفولة وضحكاتها ولا مبالاتها العفوية وتتكدس فوق أكتافهم النحيلة أحمالٌ يصعب على أعتى الكبار تَحَمُّلها، ورغم ذلك يجاهدون لـ «يسرقوا» بقايا سنة دراسية تنساب من بين أصابعهم الصغيرة ويزرعوا في بيوتهم «شيْطنة» طفولة سيّجتْها المصاعب من كل جهة.
لم يعد أطفال لبنان يشبهون أنفسهم، كبروا في سنةٍ ونيّف سنوات وتركوا الطفولة خلفهم، قفزوا مراحلها وغرقوا كالكبار في أزمات وكوارث متسلسلة تقبض على وطنٍ «ابتلع» براءتهم. كل شيء تغيّر في حياتهم، والطفولة الهائنة التي تَطَلّع الأهل وجهدوا لتأمينها لهم تشلّعت وتَبَعْثَرَتْ.
قد يبدو هذا الواقع مستغرباً وصعب التصديق للناظر إليه من بعيد، ولكن على أرض لبنان بات الأطفال أول ضحايا المآسي المتنوّعة التي يعيشها هذا البلد المنكوب.
سلسلة اضطرابات أنهكت الأهل والابناء
في أكتوبر 2019 انطلقت الانتفاضةُ اللبنانية وأقفلت شوارع لبنان وطرقه الرئيسية واحتلّ الناس الساحات والأماكن. أقفلت المدارس أبوابَها وقبع التلاميذ في منازلهم يحلمون مع أهلهم بغدٍ أفضل يحمل إليهم العدلَ والشفافية والتقدم ويمحو من سجلّ الوطن كل فساد وظلم وتخلّف. هلّلوا للانتفاضة وتحمّسوا لها ونسوا ما فاتَهم من دروس.
وحين خبا وهجُ الانتفاضة وعادت دورة الحياة الى وتيرة شبه طبيعية، بدأ يلوح في الأفق شبحُ أزمةٍ مالية اقتصادية أرعبت الأهل وجعلتْهم يتهافتون الى المصارف خائفين على جنى العمر وجاهلين ما يجب القيام به للحفاظ عليه. وصارت الأزمة وتداعياتها على الأسرة محور أحاديثهم التي يستمع إليها الصغار بخوف ورهبة من فقر يطرق الأبواب.
ويوماً بعد يوم لم تَعُد الأزمةُ الاقتصادية مجرد شبح مخيف بل باتت واقعاً صعباً يعيشه الأهل ومعهم الصغار… صار من الصعب تأمين أقساط المدارس بعدما تَراجَعَ مدخول أولياء الطلاب، لا بل أصبح من الصعب تأمين متطلبات المعيشة اليومية للعائلة مع بدء ارتفاع الأسعار. وكان الصغار يراقبون بصمتٍ تَخَبُّط الأهل، الى أن اجتاح فيروس «كورونا» العالم بأكمله وحُبس الناس في بيوتهم.
في بلدان العالم وضعت الحكومات سريعاً برنامج عمل لتأمين التدريس عن بُعد وإنقاذ السنة الدراسية، وسعت حكومةُ لبنان الى ذلك أيضاً متجاهلة وضع شبكة الإنترنت في لبنان و«سرعتها السلحفاتية» وحال التيار الكهربائي وغيابه المتواصل عن العاصمة وحرمان المناطق ولا سيما النائية من أساسيات التعلّم عن بُعد. لم تقدّم الدولة إعانات للعائلات التي لا تستطيع اقتناء حاسوب أو أكثر من جهاز هاتف ذكي، ولم تعمل على تفعيل شبكة الانترنت في مناطق الأطراف ولم توفّر أي دعم تقني للمدارس الرسمية أو أي تأهيل لمدرّسيها ليواكبوا التعليم عن بُعد، فعجز الكثير من المدارس عن إكمال السنة الدراسية بالشكل المناسب وخسر الطلاب مدماكاً من مداميك مستقبلهم.
ومع تَعاقُب الأشهر، ازداد الوضعُ المالي قسوة وازدادتْ الأعباءُ على العائلات، وحلّقتْ أسعارُ السلع الأساسية واختفى بعضها من الأسواق. السكاكر، الشوكولا، البسكويت، وهي فرحةُ الصغار، بلغتْ أسعارُها مستويات تفوق قدرة الأهل، فكادت تغيب عن يوميات الصغار أو حلّت مكانها أصناف مجهولة المصدر والهوية يُخشى من تأثيراتها الضارة على صحتهم ونموهم. واستمر الصغار يعاندون الظروف ويسرقون فيما بينهم الضحكة رغم الظروف، إلى أن انفجر الموتُ في بيوتهم وشوارعهم ومدارسهم مع الانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الماضي.
اغتيال الطفولة
اغتيلت الطفولة وأحلامُها مع اغتيال وجه بيروت المُشْرِق، وسكن الموت البيوت. الطفلة ألكسندرا نجار التي كانت (الثلاثاء) ستبلغ الرابعة من عمرها طيّرها عصف الإنفجار وطيّر معها آمال جيل بأكمله بمستقبلٍ أقلّه يمنحهم حق الحياة.
… تَشَرَّدَ أطفالُ بيروت، وما يفوق 80000 منهم فقدوا منازلهم ومراتع طفولتهم وأشياءهم، فَقَدوا مدارسهم وأصدقاءهم. فقدوا أهلاً لهم وأحبة رأوهم يموتون أمام عيونهم. وأكثر، فقدوا الأمان و لاستقرار وأصيب منهم 1000 طفل من بين أكثر من 6000 إصابة. عشعش الخوفُ في قلوبهم الصغيرة واحتلت صور الموت مخيلتهم: ذهول،ٌ دمٌ، زجاجٌ، ركامٌ، وجوه مرعوبة وأخرى تملأها الجروح، وصرخاتُ ألم واستغاثة. وما عادت الحياة بعدها ألى روتينها إلا ظاهرياً. وأجمع الاختصاصيون النفسيون على الضرر النفسي الذي سيرافق أطفال لبنان طويلاً بعد حالة العزلة والعدائية والخوف من الأصوات والكوابيس التي عاشوها مباشرةً إثر «بيروتشيما». فمَن يعرف ماذا يختزن هؤلاء الصغار في نفوسهم من صدمة وقلق وخشية من اليوم والغد؟
ودارت الحياةُ دورتَها، وعادت السنة الدراسية لعام 2020-2021 لتطل برأسها من جديد في ظل تَخَبُّطٍ في القرارات من وزارة التربية بين فتْحِ المدارس وإغلاقها، واعتماد التعليم الحضوري أو المدمج. وضاع الأهل وضاع معهم الطلاب، وما عادوا يعرفون هل يرسلون صغارهم التي ضاقت بهم البيوت الى المدارس ويعرّضونهم للخطر أم يُبْقونهم آمنين في البيوت ويعرّضون مستقبلَهم الدراسي للخطر؟
حتى موسم الأعياد مّر ثقيلاً على الأطفال. فالهدايا التي انتظروها تحت شجرة العيد لم تأت أو أتت هزيلة على خلاف أمنياتهم. فغالبية الأهل لم يستطيعوا شراء الهدايا كما كانوا يفعلون سابقاً. ومن «اللحم الحيّ» قدّموا لصغارهم أشياء بسيطة ما استطاعت في كثير من الأحيان رسم الضحكة على وجوههم.
واستمرّ التخبّط التربوي والتأزم الاقتصادي، إلى أن عاد كابوس «كورونا» ليلقي بظلاله المميتة على لبنان الذي شهد ارتفاعاً جنونياً في عدد الإصابات ومعه ارتفاع في عدد الضحايا تَرافَقَ مع شبه انهيارٍ للقطاع الصحي الذي لم يعد قادراً على استيعاب «تسونامي» الحالات الايجابية.
وأطلقتْ وسائل الإعلام حملات تخويف لحضّ الناس على التزام بيوتهم، وطغت أخبار «كورونا» على اي شيء آخر في المنازل وعلى الشاشات، وعمّ الذعر بين الناس. وكان الأطفال مرة جديدة ضحية الرعب الذي تبثه الشاشات ووسائل الإعلام عن قصد، ويذكيه الأهل في البيوت عن غير قصد. وصار حديث المرض والموت بديلاً عن أغاني الاطفال ودروسهم وطرائفهم، يسمعونه يومياً وهم «محبوسون» داخل جدران بيوتٍ كئيبة مع أهل مضغوطين ومذعورين يصرخون حنقاً وتوتّراً، يلاحقون لقمةَ عيشٍ لا تنفكّ تهرب من أمامهم، يحظر عليهم الخروج حتى الى الطبيعة والاستمتاع بالثلج الذي كان يسكب المرح والسعادة على يومياتهم.
حتى التعليم عن بُعد الذي كان يُتَوَقَّع أن يشكل مَنْفَذاً لهم نحو حاضرٍ شبه طبيعي ومستقبل أفضل، تَعَثَّرَ مع إضراب المعلمين المتعاقدين في المدارس الرسمية وامتناعهم عن إعطاء الدروس اونلاين بسبب تضاؤل ساعات تدريسهم وانخفاض مدخولهم نتيجة ذلك، وهم بدورهم آباء وأمهات على عاتقهم واجبات تأمين معيشة أُسَرِهم. وكان الطلاب ضحيةَ هذا التجاذب ولم يتموا في هذه المدارس إلا 20 في المئة فقط من المنهج الدراسي الذي يتوجب عليهم إتمامه.
أولادنا أبطال
من هنا دوّت صرخةُ أمهات لبنان وتَرَدَّدَ صداها قوياً على مواقع التواصل الاجتماعي. لارا سليمان نون صرخت سائلة: «في وسط هذا الظلام هل فكّرتم بأولادنا؟ هل أعددتم شيئاً لهم يُخْرِجُهم من حال الخوف والقَرَف التي يعيشونها؟ هل تدركون أنهم لن يخرجوا معافين مما يرونه حولهم من بشاعة؟».
وتوجهت بشكل مباشر إلى الشاشات اللبنانية وسألت: «أين برامج الأطفال التي تحمل فرحاً وغناءً ورقصاً وصلاة وقصةَ قبل النوم؟ لماذا لا يَنْطلق يومُكم بصورة حُلوة عن لبنان يبدأون بها نهارَهم؟ ثمة أولادٌ، أهلُهم بلا عمل، ثلاجتهم فارغة، يتألّمون بصمتٍ دون أن يدري بهم أحد أو يهتمّ لحالهم. أولادنا يموتون ببطء، خائفين من كل شيء وأنتم على الشاشات تذكّون هذا الخوف وتؤججون نارَه في قلوبهم الصغيرة بدل تبديده ببرامج تفرحهم وتلهيهم عما حولهم من أهوال».
وكذلك توجّهت إلى المدرّسين سائلةً إياهم أن يغنّوا ويحتفلوا بأعياد ميلاد الأطفال ويَفْرحوا معهم، وصرخت قائلة: «أنا كأم لم تعد تهمّني علاماتهم في المدرسة بقدر ما يهمّني أن يخرجوا معافين نفسياً من هذه الحرب الكونية». وخاطبتْ المدارس قائلة: «حين ينتهي كل هذا ويعود الأولاد الى مدارسهم أتمنى أن تضيفوا مادةَ»حب الذات والثقة بالنفس«إلى مناهجكم لتعيدوا إلى الأطفال ما خسروه منها. لا تدرّسوهم بعد اليوم تاريخاً بلا فائدة أو مادة حسن التصرف… بماذا أفادتهم هذه المواد عند انفجار المرفأ؟ وهل أجابت على سؤالهم: لماذا قتلونا؟»… إن لم تُحْدِثوا ثورةً في التربية بعد كل هذا، ادفنوا أنفسكم إذا كان لا طائل منكم«، لتنهي صرختها قائلة:»لا أمل في بلد ضاعت طفولته بين مخازن النيترات وماكينات الأوكسجين وصور الأشلاء…لا تنسوا أطفالنا حتى لا ينساكم الوطن…».
فهل أقسى من صرخة الألم واليأس هذه دفاعاً عن «أبطال صغار» كما تقول نجاة بو نادر، تحمّلوا فوق طاقتهم وعاشوا أزماتٍ لم تمرّ بحياة اي جيل قبلهم.
https://www.alraimedia.com/article/1519875/خارجيات/العرب-والعالم/أطفال-لبنان-صغار-في-قبضة-أزمات-الكبار