أن يحصد فيروس أعمى أماً في عزّ صباها ويحرم عائلتها الصغيرة منها أمرٌ يفوق قدرة العقل على إيجاد المبررات وفهْم الأسباب.. فكيف يمكن لصبية حلمت بمستقبل زاهر مع زوج مُحِبّ وأطفال يملؤون بيتها فرحاً وحباً أن تمحى أحلامها وتغيب عن الوجود في غضون 18 ساعة مستسلمة لقدَر مأسوي لم يردعه رادع، تاركة وراءها رضيعاً لم ترَ وجهه ولن يعرف يوماً حنان الأم؟ كيف يمكن لأمهات شابات كن حتى الأمس القريب يزخرن بالصحة والحيوية أن يتركن عائلاتهن ويرحلن بغفلة من الزمن بتداعيات فيروس لعين قاتِل عبث بكل مقومات الحياة؟ أسئلة حارقة يحاول الطب أن يجد لها جواباً.
لا يزال فيروس «كورونا» بنسخته الأصلية أو بمتحوراته المستجدة يفاجئ الجسم الطبي والبحثي عبر العالم بما يحمله من مضاعفات غير متوقعة على الجسم لم يكن من الممكن ملاحظتها ـو تفاديها سابقاً. واليوم الضوء مصلت بشدة على تأثير هذا الفيروس على الحوامل وتداعياته المميتة على بعض منهن. وقد شكل وفاة حامليْن في عمر الشباب أخيراً في لبنان إضافة الى ثمانية حالات سابقة مصدر ذعر لكل الحوامل ومصدر قلق حقيقي للأطباء دفع بهم الى رفع الصوت عالياً للتنبيه من أخطار الفيروس على الحوامل وضرورة الحصول على العناية المطلوبة باكراً لكل المصابات تلافياً للوصول الى الأسوأ.
«الراي» سألت د. ربيع شاهين رئيس الجسم الطبي في مستشفى رفيق الحريري الجامعي ورئيس دائرة الجراحة النسائية والتوليد فيه عن ظاهرة وفاة الحوامل وأسبابها وسبل تلافيها.
منذ انطلاقة جائحة «كورونا»، شكّل مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت النواة الطبية والتمريضية للوقوف في وجه الوباء وحصْر تداعياته الصحية على المصابين. وكان أول مستشفى استقبل إصابات «كوفيد – 19» وعالج الحصة الأكبر من المصابين ما ساعده على تكوين معرفة سريرية وبحثية واسعة نتيجة التعاطي المباشر مع المرض. ومن هنا أدرك القيمون على المستشفى ضرورة إنشاء غرف ولادة، ووحدة عناية مركزة لحديثي الولادة في حين كان الكثير من مستشفيات لبنان غير مجهّز بعد لاستقبال الحوامل المصابات بالفيروس وإجراء عمليات الولادة لهن.
150 ولادة وأكثر شهدها مستشفى رفيق الحريري الجامعي لحوامل مصابات بكورونا حتى اليوم، ولكن الشهرين الماضييْن شهدا دخول أكثر من 12 حاملاً الى غرف العناية المركزة نظراً لتفاقُم وضعهن الصحي وإلى وفاة 5 حوامل نتيجة مضاعفات الإصابة بفيروس «كورونا». وكانت المريضة الشابة سوميا نهرا آخِر الضحايا بعدما عجز جسمها عن تحمل مضاعفات الإصابة ففارقت الحياة من دون أن ترى طفلها المولود حديثاً تاركة وراءها زوجاً مفجوعاً وطفلة لم تتخط سنة ونصف من العمر. وقبلها خسرت الحامل كاترين الهاشم جنينها وفارقت الحياة في الأسبوع نفسه بعد صراع مع كورونا استمر 12 يوماً.
هذه الوقائع المؤسفة دفعتْنا لسؤال د. شاهين عما إذا بات بإمكاننا الحديث عن ظاهرة وفاة الحوامل المصابات بكورونا وعن تفسيره لهذه الظاهرة. لكن الطبيب المختص يرفض توصيف الأمورالطبية بصفات تتخطى وضعها العلمي «أي لا يمكن الحديث عن ظاهرة بل عن ترددات أشد قسوة للموجة الثانية من الفيروس على الصعيد العام لا على صعيد الحوامل فحسب. لقد أحصينا حتى الآن نحو عشر وفيات لحوامل متصلة بكورونا، ونحن على تواصل مع المستشفيات الأخرى لدرس هذا الأمر».
ما يمكن تأكيده اليوم أن الازدياد الكبير في حالات كورونا في لبنان رافقه ازدياد لعدد الحوامل المصابات ترافق مع ظهور وضع متقدم جداً عند بعضهن. هذا الواقع المستجد، الذي أدى الى ضغط كبير على النظام الصحي في لبنان جعله غير قادر على استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين، أفضى بدوره الى تأخّر وصول بعض الحالات الى المستشفيات، ولا سيما أن أقسام كورونا الخاصة بالحوامل غير موجودة في المناطق ما ساهم في تسرّب بعض الحالات وتطوُّر وضعها.
نسأل د. شاهين إذا كان للموجة الجديدة من الفيروس دوراً في تزايد مضاعفاته على الحوامل؟ فيقول «لا نعرف علمياً بعد إذا كانت الموجة الجديدة مع السلالة المتحورة قد أدت الى ظهور أعراض أكثر شدة، لكن ثمة إحساساً عند الجميع بأن الناس كانوا سابقاً يمرضون أكثر مع أعراض تنفسية وسعال لكن مع قدوم الموجة الثانية بدءاً من شهر ديسمبر الى الآن باتت المضاعفات أقوى، ولكنه أمر غير مؤكد بعد. وما هي إلا ملاحظات سريرية و ليست بحثية. 80 بالمئة من حالات الحوامل المصابات اللواتي ولّدن في مستشفى الحريري أحصين في الأشهر الثلاثة الأخيرة أي مع قدوم الموجة الثانية. وهذا الأمر لا ينطبق على لبنان فقط بل تمت ملاحظته في كل البلدان التي ازدادت فيها أعداد الأصابات بشكل عام حيث حدث تفلت، تبعه ازدياد في أعداد الحالات ومن ثم في حالات الوفيات. وتمت ملاحظة أمر آخر وهو ان الحوامل اللواتي تعرضن لمضاعفات شديدة كنّ في الأشهر الأخيرة من الحمل اي بعد الأسبوع الرابع والعشرين، فيما اللواتي أصبن في الأشهر الأولى كانت إصابتهن خفيفة ومن دون مضاعفات».
علاقة جدلية بين الحمل ومضاعفات كورونا
قد يترافق الحمل في الأحوال العادية مع مضاعفات خطرة مثل ارتفاع ضغط الدم أو حصول ما يعرف بتسمم الحمل أو مع ظهور السكري، فهل شكلت هذه العوامل أسباباً أدت الى تفاقم حالة الحوامل المصابات بكورونا أو تَسَبَّبَتْ بوفاتهن؟ يؤكد د. شاهين أن كل الوفيات حصلت بفعل مضاعفات كورونا وليس لأسباب أخرى. إحدى الحالات فقط حدث معها تسمم حمل عولجت منه ثم توفيت بمضاعفات رئوية جراء الفيروس.
لا شك أن وجود بعض العوامل الصحية عند الحامل مثل السكري أو الضغط أو الوزن الزائد أو كونها قد تخطت الأربعين يجعلها أكثر عرضة للمضاعفات في حال أصيبت بكوفيد-19 ولكن هذا لا يعني أن مَن تعاني هذه المشاكل قد تحدث لديها حتماً مضاعفات شديدة عند الإصابة. ويؤكد الطبيب ان 90 الى 95 بالمئة تمرّ عليهن الأعراض من دون أن تتسبب بضرر لهن او للجنين «وثمة حالات كانت متقدمة جداً تحسّن وضعها بعد بقائها لفترة في العناية الفائقة ما يعني أن ليس كل حالة حرجة تؤدي الى الوفاة».
من هنا سؤالنا حول الأسباب التي أدت في رأيه الى وفاة السيدة الحامل أخيراً: “ما حصل مع السيدة سوميا حزين جداً ومؤسف، فقد وصلت إلى المستشفى في حالة متقدمة جداً مع نسبة أوكسجين منخفضة الى حد كبير في الجسم. وبعد إجراء الفحوص والصور تبين أن نحو 90 بالمئة من الرئتين مصاب بالفيروس، ما أدى نتيجة الجهد في التنفس الى ثقب هوائي في الرئة تسبب بالضغط على الشرايين الأساسية في الجسم. ورغم اتخاذ القرار بتوليدها فوراً، لم تصمد أكثر من يومين على جهاز التنفس الاصطناعي وفارقتْ الحياة نتيجة سلسلة مضاعفات كورونا.
عموماً و بحسب الدراسات العالمية بات الحمل يعتبر عاملاً يزيد من خطر التعرض الى مضاعفات متوسطة قد تتطور لتتحوّل مضاعفات متقدمة عند البعض. لكن 5 بالمئة فقط تحدث لديهن مضاعفات ونسبة 1 تحدث لديهن ردة فعل التهابية عامة تصيب الرئتين وتنتقل الى الكلى والدم فتنشأ مضاعفات خطرة لا نعرف حتى اليوم سببها ولماذا تتحاوب بعض الحالات مع العلاج فيما بعضها الآخر لا يتجاوب ويفارق الحياة”.
سبل إنقاذ الحوامل
هل يمكن تجنب وصول الحامل الى حالة حرجة؟ سؤال يجيب عنه الطبيب المختص بالقول «إن وصول الحامل التي تعاني أعراضاً مثل ضيق في التنفس أو نقص في الأوكسجين الى المستشفى في وقت مبكر يمكن أن يساعد في إعطائها العلاج المناسب ومنْع تَفاقُم حالتها. أما العلاجات التي تعطى للحامل فهي ذاتها التي تعطى لأي مريض كورونا، وتتنوّع بين أدوية الكورتيزون ومسيلات الدم والمضادات الحيوية وفي بعض الأحيان قد يتطلب العلاج إجراء ولادة مبكرة للسماح للرئتين بالتمدد والحصول على الأوكسجين الكافي. لكن قرار الولادة المبكرة ليس دائماً حاسماً ويُتَّخَذ بالتداول بين الطبيب النسائي وطبيب العناية الفائقة، وتتم الولادة قيصرياً لأن حالة الحامل لا تسمح لها بولادة طبيعية على أمل أن يساعد ذلك في تحسين وضعها».
حكي الكثير مؤخراً عن التأثير الإيجابي لوضعية proning او النوم على البطن بالنسبة لمرضى كورونا فكيف يمكن تطبيق هذه الوضعية بالنسبة للحامل؟ لا شك ان هذه الوضعية يقول د. شاهين تصبح أصعب بكثير بالنسبة للحوامل كما أنها لم تعط المفعول السحري الذي يحكى عنه.
وحين نسأل: كطبيب مختص في التوليد ما نصيحتك للحوامل ؟ يجيب: «أولاً أن يعتمدن أقصى تدابير الوقاية لمنْع حدوث الإصابة. اما في حال التعرض فيُنصح بالتواصل الدائم بين الحامل وطبيبها النسائي وطبيب الأمراض الجرثومية والمُعْدية. فالطبيب النسائي وحده قد لا تكون لديه الخبرة المطلوبة للتعامل مع مرض كورونا وعليه ان يوجه مريضته الى المستشفى المختص والطبيب الاختصاصي، كما على الحامل متى شعرت بأعراض ضيق تنفس أو سعال أو نقص في الأوكسجين ان تتواصل فوراً مع طبيبيها وتتوجه الى المستشفى. وأخيراً ان تنال اللقاح، فتوجيهات منظمات عالمية اليوم هي بإدراج الحوامل ضمن الفئات الأكثر عرضة ووجوب تلقيهن اللقاح بعد العاملين الصحيين مباشرة رغم عمرهن الصغير نسبياً لأنه يساعد في أن تمر الإصابة من دون مضاعفات قوية».
الحامل و اللقاح
تكثر الأسئلة حول اللقاحات ويتفاعل الجدل لكن رغم كل ذلك يبقى اللقاح بحسب الطبيب أقل ضرراً على الحوامل من خطر المضاعفات التي يمكن ان تنشأ عن إصابتهن. أما إذا كان بالإمكان أخذ اللقاح في الأشهر الأولى للحمل فهو جدال لم يُحسم بعد لكن بالنسبة للاشهر الأخيرة من الأفضل الحصول على لقاح رغم عدم وجود داتا كافية تؤكد أو تنفي مضاعفاته على الجنين لكنه يبقى الخيار الأفضل لتجنيب الحامل حدوث مضاعفات خطرة.
يبقى السؤال الأخير الذي يرافق كل إصابة لامرأة حامل: هل يمكن ان تنقل العدوى الى الجنين في بطنها أو أثناء الولادة؟ يقول د. شاهين انه وعلى إثر التجارب التي عايشوها مع الحوامل في مستشفى رفيق الحريري فإن العدوى من الأم الى الجنين نادرة حتى في عز وجود العوارض المرَضية عندها ولم يحدث أن أصيب رضيع من أمه، ولكن يمكن للرضيع ان يلتقط العدوى من غرفة العناية إذا احتاج إليها نتيجة ولادة مبكرة قبل أوانه أو من محيطه، والعدوى غالباً ما تكون قليلة التأثير عليه، أما وضعه كطفل خديج فهو الذي يمكن ان يتسبب بمضاعفات له.
رغم الوعي الطبي والتجهيزات الطبية الملائمة، يشهد مستشفى الحريري اليوم وجود 3 حالات في العناية الفائقة لحوامل مصابات بكورونا بينها حالة واحدة حرجة. من هنا دعوة د. شاهين الى الوعي والتنبه، ودعوته الى كل المستشفيات لإعداد أقسام خاصة بولادة الحوامل المصابات بكورونا حتى لا يبقى مصيرهن في مهب التجاذبات «فالوضع دراماتيكي ويتطلب تضافر كل الجهود للتصدي له».