كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
تترقب الاوساط السياسية والديبلوماسية بشوق، عودة الرئيس سعد الحريري من جولته الخارجية، التي بدأت بالقاهرة ولم يُعرف اين ستنتهي، بعد التكهنات بأنّها ستشمل باريس وربما ابو ظبي. فالرهان على نتائج الزيارة مردّه الى ما تبلّغته مراجع معنية بحجم التفويض الاميركي للفرنسيين، لاستعادة مبادرتهم زخمها، من أجل فكفكة رموز الأزمة ومدخلها تشكيل الحكومة المنتظرة. وعليه، كيف تمّ التوصل الى هذه المعادلة؟ وما هي حظوظها؟
يسعى المراقبون بجهد الى التثبت من سلسلة اشارات سياسية وديبلوماسية، لفهم حجم التفاهم الاميركي – الفرنسي الذي تمّ التوصل اليه بين القطبين حيال الوضع في لبنان والمنطقة. ففي الاعتقاد السائد، انّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نجح في بناء تفاهم مع الإدارة الاميركية الجديدة، منذ دخول الرئيس الاميركي الجديد جو بايدن الى البيت الابيض. فالمهمة لم تكن صعبة على ماكرون وبايدن، وهما اللذان اتفقا في الإتصال المطول بينهما، على إيكال المهمة بتفاصيلها العملية والدقيقة، الى كلٍ من الصديقين وزير خارجية فرنسا جان ايف لودريان ونظيره الاميركي انتوني بلينكن، باعتبارهما الثنائي الذي يعد من خلال علاقتهما المميزة، بإمكان إنجاز تفاهمات مشتركة حول الكثير من الملفات الدولية ومنها الوضع في لبنان.
وبناءً على هذه المعلومة، توسّعت المراجع السياسية والديبلوماسية في تحليلها، سعياً الى سبر أغوار العلاقة وما يمكن ان ترشد اليه على مستوى الملف اللبناني. ففي قناعة الباحثين عمّا يثبت حجم التفاهم بشأن اوضاعنا، انّ هناك فوارق في النظرتين الفرنسية والاميركية الى بعض الملفات الكبرى، وهو ما يعيق التفاهم بشكل شبه شامل. ولذلك، فقد توقفت هذه المراجع امام مؤشرات عدة توحي بأنّ التفاهم بشأن لبنان بات متقدّماً على ما عداه من القضايا. وابرزها:
– الإتصال الفوري الذي اجراه الرئيس الفرنسي بالرئيس ميشال عون بعد اقل من 72 ساعة على اتصاله بالرئيس بايدن، وتناوله موضوع تأليف الحكومة في لبنان، ومعه مجموعة الملفات الخلافية العالقة، معتبراً انّ تشكيل الحكومة بأسرع وقت ممكن يشكّل معبراً اجبارياً، هو الأقصر للولوج الى باقي المشاكل الاقتصادية والنقدية، وما يحتاجه لبنان من مساعدات، في اعقاب التفاهم مع صندوق النقد الدولي والدول والمؤسسات المانحة.
– البيان المشترك الذي اصدره الوزيران لودريان وبلينكن في الذكرى النصف سنوية لتفجير المرفأ في 4 آب، وتأكيدهما انّ بلديهما «مستمران بدعمهما الكامل الذي لا لُبس فيه للشعب اللبناني، وتشديدهما على الضرورة الملحّة لتشكيل حكومة ذات صدقية في لبنان وفعّالة، وتمهيد الطريق لتنفيذ الإصلاحات اللازمة وفقًا لتطلعات اللبنانيين. وانّهما سيواصلان كما فعلا منذ الانفجار، لتوفر دعم طويل الأجل للبنان، بما في ذلك مع الأمم المتحدة وشركائنا والمجتمع المدني اللبناني في مؤتمري الدعم في 9 آب و 2 كانون الاول الماضي، لتقديم المساعدة العاجلة للشعب اللبناني في مجالات الصحة، التعليم والإسكان والدعم الغذائي». هذا عدا عن تأكيدهما بأنّهما ينتظران «نتائج سريعة في التحقيق في أسباب الانفجار». ووجوب “سير العدالة في لبنان بشفافية بعيدًا من أي تدخّل سياسي”.
– إجماع الإدارتين الاميركية والفرنسية على إدانة جريمة اغتيال الناشط السياسي لقمان سليم، وإصرارهما على ضرورة تجنّب اعمال العنف. وظهر جلياً، انّهما استخدما العبارات عينها لإدانة الجريمة، وهو ما يؤكّد انّه وبالرغم من صدور بيانين منفصلين، فإنّهما يلتقيان على القراءة عينها لظروف الازمة اللبنانية وتفاعلاتها، بوجود نظرة واحدة لخريطة الطريق المؤدية الى خطة التعافي في لبنان، رغم توغل الوزير الاميركي في بيانه الى ادق التفاصيل بما يتصل بالجريمة، متناولاً مسؤوليات القيادات اللبنانية والمؤسسات الامنية والقضائية، توصلاً الى اعتقال المنفذين ومحاكمتهم، وهو ما لم تذهب اليه المواقف الفرنسية.
وإلى الحديث الذي تردّد قبل ساعات قليلة عن زيارة لموفد رئاسي فرنسي خاص الى بيروت، بانتظار فتح المطارات الفرنسية باتجاه لبنان والمنطقة، بعد لقاءات الرئيس الحريري في باريس، فقد تعدّدت المؤشرات التي توحي بتقدّم كبير في توحيد النظرتين الاميركية والفرنسية تجاه الأزمة في لبنان. فالتشكيك باحتمال ان لا تكون الدولتان قد توصلتا الى نظرة مشتركة شاملة ما زال قائماً. ولكن التمادي في قراءة العكس يبدو صعباً للغاية. ومردّ هذا التشكيك، انّ هناك اطرافاً أخرى يمكن ان تعاكس هذا التفاهم المشترك، وهو ما تنبّه اليه الرئيس الفرنسي في قراءته للوضع.
ولذلك، فقد اعطى المشكّكون مهلة لأنفسهم للتثبت من حجم التفاهم المفيد للبنان، فدعوا الى التروي الى حين قيام الرئيس الفرنسي بالزيارة المعلن عنها قبل نهاية الشهر الجاري الى المملكة العربية السعودية، تزامناً مع رواية ديبلوماسية تتحدث عن توجّه موفدين فرنسيين الى إيران لاستكشاف حجم استعداداتها للتجاوب مع الشروط الاميركية الجديدة، من اجل احياء المفاوضات بين واشنطن وطهران حول الملف النووي والصواريخ البعيدة المدى، والتي من المحتمل تزويدها برؤوس نووية.
وان كان الامل قوياً بإمكان اطلاق هذه المفاوضات، فإنّ اعلان باريس عن استعدادها للعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن، في ظلّ رضى اميركي، فإنّ القراءات الديبلوماسية ترى انّ ما هو مطلوب من ايران في لبنان اسرع مما هو مطلوب منها في اي ملف آخر، ومنها الملف النووي. ولذلك سيكون عليها التخفيف من شروطها على الساحة اللبنانية كبادرة حسن نية تستبق اي حديث عن المفاوضات الأخرى، كما بالنسبة الى ضرورة لجم طموحاتها الاقليمية في الشرق الاوسط والخليج العربي وتحديداً ما بين مضيقي المندب وهرمز.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ اي خطة متقدّمة تقرّب وجهات النظر بشأن الملف اللبناني، ستكون ميدان التجربة الأولى للاستراتيجيات الأميركية والايرانية والفرنسية في المنطقة، وهو امر لن يطول انتظاره. وعليه سيكون شباط الجاري مهلة كافية ليكون الشهر الفاصل بين مرحلتين، الاولى تتصل بتحقيق النجاح المرغوب فيه في لبنان ليكون نموذجاً يمكن الاعتماد عليه في قراءة المرحلة المقبلة الأكثر شمولاً، وصولاً الى الملف النووي.
وختاماً، تدعو المراجع السياسية والديبلوماسية الى فهم اهمية ما يجري من اتصالات عاجلة لفكفكة العِقَد اللبنانية واحدة بعد أخرى، تمهيداً لوضع مجموعة الازمات على سكة الحل. وهو ما يستدعي تجاوب اللبنانيين مع ما هو مطلوب منهم. مع الامل بأن يكون اللبنانيون على استعداد للقيام بأقل ما هو مطلوب منهم في اسرع وقت ممكن، تسهيلاً للمساعي المبذولة في الخارج. فما هو ملقى من مسؤوليات على عاتقهم قلّص هامش المناورة والتذاكي على المبادرة الفرنسية التي باتت تحظى بغطاء اميركي فاعل ومؤثر بطريقة مباشرة لا لُبس فيه هذه المرة. ولذلك، فإنّ الحديث عن «خرطوشة» فرنسية بـ «بندقية اميركية» بات امراً منطقياً. ليبقى في الافق سؤال آخر مطروح، ولن يطول الجواب المنتظر عليه. فهل ستكون “الطلقة الاخيرة”؟!