كتب محمد شقير في “الشرق الأوسط”:
لم يتضمّن البيان الصادر عن المجلس السياسي لـ«التيار الوطني الحر»، في الذكرى الخامسة عشرة للتوقيع على ورقة التفاهم بين رئيسه ومؤسسه آنذاك العماد ميشال عون وبين الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله أي جديد سوى أنه جاء بمثابة إعادة صياغة لمواقفه التي عبّر عنها رئيسه الحالي النائب جبران باسيل في أكثر من مناسبة أبرزها محاولته الالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة عليه قبل أن تدخل حيّز التنفيذ، ولم يفلح في تقديم أوراق اعتماده إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب؛ سعياً لإقناع إدارته بصرف النظر عنها.
ولعل الأهمية الوحيدة لهذا البيان تكمن في اختياره التوقيت لمناسبة مرور 15 عاماً على توقيع ورقة التفاهم ليتوجّه من خلالها بجردة حساب من حليفه «حزب الله» تحت سقف ضرورة إخضاعها إلى مراجعة إيجابية لتبيان مكامن الخلل، انطلاقاً من أن «التيار الوطني» التزم بما تعهد به لجهة تجنيب لبنان شرور الفتنة والانقسام، وحماه من اعتداءات الخارج بردع إسرائيل وصد الإرهاب، في مقابل أن من التزم بهذه الورقة، في إشارة إلى شريكه الشيعي، لم ينجح في توفير الدعم له في معركة بناء الدولة وسيادة القانون ومكافحة الفساد.
ومع أن «التيار الوطني» أراد أن يرمي المسؤولية في إعاقة مشروع الدولة وبطريقة غير مباشرة على حركة «أمل» الحليف الاستراتيجي لـ«حزب الله» الذي يبدو أنه ليس في وارد الرد عليه في محاولة لاستدراجه للدخول في سجال سياسي لا يتوخّاه، رغم أنه يدرك جيداً أنه وحليفه باسيل محكومان بالتحالف الذي سيبقى صامداً حتى إشعار آخر لتعذّر تأمين البدائل.
كما أن نصر الله كان أول من تجاوب مع باسيل بإجراء مراجعة لورقة التفاهم، وانسحب موقفه على نائبه الشيخ نعيم قاسم، خصوصًا بعد صدور العقوبات الأميركية التي استهدفت رئيس «التيار الوطني». ولاحقاً تقرر تشكيل لجنة مشتركة تتولى إعادة تقويم العلاقة التحالفية بينهما، وتتقدّم بمقترحات لتفادي الخلل الذي أصابها، وضمت اللجنة عن «التيار الوطني» النائبين آلان عون، وسيزار أبي خليل، وعن «حزب الله» النائب حسن فضل الله ورئيس العلاقات الإعلامية محمد عفيف ورئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله.
وفي هذا السياق، قال مصدر نيابي يتقاطع في معظم مواقفه مع «الثنائي الشيعي» لـ«الشرق الأوسط» إن هناك جملة من الأسباب لا يمكن تجاهلها لتفسير إصرار باسيل على مطالبته بمراجعة ورقة التفاهم، مع أن لا مصلحة له في إقحام نفسه في جردة حساب مع «حزب الله» الذي لديه الكثير مما يقوله في حال قرر الخروج عن صمته، وسيكون بمثابة مضبطة اتهام لباسيل.
ولفت إلى أن الحزب لا يبدي في مجالسه الخاصة انزعاجاً من باسيل، لكن يفضّل الاحتكام إلى الرئيس عون طلباً لضبط إيقاعه السياسي إلى أن اكتشف أخيراً أن باسيل أخذ يتصرف بلا رادعة وكأنه الرئيس الظل، وهذا ما ظهر جلياً في تسخيره لإدارات الدولة لخدمة طموحاته الرئاسية، وقال إنه يمارس حالياً سياسة لا تخلو من ابتزاز حليفه بعد أن أيقن أن «العهد القوي» بدأ يتهاوى وأن فرص إنقاذه باتت مستحيلة.
ورأى المصدر النيابي أن «حزب الله» كان وراء توفير الغطاء السياسي، بدءاً بتأخير تشكيل الحكومات ما لم يصر إلى التجاوب مع شروط باسيل الذي عُيّن وزيراً رغم أنه رسب مرتين في الانتخابات النيابية بخلاف إصرار عون على عدم توزير من يخسر في الانتخابات قبل أن يتراجع إكراماً ومراعاة لصهره، وقال إن الحزب عطّل مراراً جلسات انتخاب رئيس الجمهورية إلى أن ضمن انتخاب عون رئيساً.
واعتبر أن باسيل بات مضطراً لاستخدام عضلاته السياسية بعد أن فقد الأمل بالاعتماد على عون لضمان مستقبله، وبات يخشى من أن تتجاوب معظم الأطراف وبدعم دولي مع شروط الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة سعد الحريري ما يفقده القدرة على إعادة تعويم نفسه، وبالتالي يريد أن يحشر «حزب الله» من دون أن يذهب إلى فرط تحالفه معه لعله يعيد له اعتباره السياسي حتى لو اضطر إلى أخذ البلد للهاوية ظناً منه بأنه سيؤمّن له الجلوس بين الكبار محلياً للبحث في مستقبل لبنان.
ناهيك أن باسيل – بحسب المصدر النيابي – يدرك جيداً أن لا مفر أمامه سوى أن يبقى في عداد الكبار المعنيين بمستقبل لبنان لعله يوقف تراجع تياره في الشارع المسيحي ومبادرة أبرز الرموز من الحرس القديم التي كانت وراء تأسيس التيار وانطلاقته إلى الانخراط في «الخط التاريخي»، وجميع هؤلاء لا يزالون موضع ثقة بداخل جمهور ومحازبي التيار الذين آثروا الصمود وفضّلوا مقاومة باسيل من الداخل.
فباسيل من وجهة نظر المصدر نفسه، يركض وراء التسويات ليس لإعادة الاعتبار إلى «التيار الوطني»، وإنما لتوفير الحماية لموقعه الشخصي، خصوصًا أن لومه للآخرين على خلفية إعاقتهم لمشروع الدولة لن يُصرف في مكان لأنه أصر على اختياره للوزراء الذين يدينون له بالولاء، إضافة إلى حصده للتعيينات في إدارات الدولة ومؤسساتها وفي المراكز الرئيسية في التيار على قاعدة إضعاف مناوئيه في الداخل لقطع الطريق على من ينافسه ليكون الوريث السياسي للرئيس عون.
كما أن باسيل بات يدرك عن سابق تصور وتصميم بأن خروجه من الحصار السياسي لن يكون إلا بالالتفات لحليفه «حزب الله» ولو من باب الابتزاز والتهويل تحسباً لقطع الطريق على دخوله في تسوية سياسية تدفع باتجاه تسريع ولادة الحكومة في حال أعيدت قنوات التواصل بين واشنطن وطهران التي قد تضطر للتدخل لدى حليفها لرفع الفيتو الذي يؤخر تشكيلها.
لذلك، فإن باسيل باستخدامه للشعارات البراقة وزجّها في إعادة مراجعة ورقة تفاهمه مع «حزب الله» يراهن على استعادة بعض ما فقده في الشارع المسيحي بعد أن تعذّر عليه استنهاضه بذريعة استرداد حق المسيحيين والحفاظ على الشراكة في تشكيل الحكومة، وبالتالي لم يعد لديه سوى هذه الورقة ليلعبها بعد أن أبدى انزعاجه من المبادرة التي طرحها رئيس المجلس النيابي نبيه بري مدعوماً من «حزب الله».
وعليه، يخوض باسيل آخر معاركه السياسية للبقاء سياسياً على قيد الحياة وهو يراهن على القوة الضاربة لـ«حزب الله» لعله يوفر له الدعم بعد أن تعذّر على باريس من خلال المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإنقاذ لبنان إمكانية تسويقه، وفيما لم يعد له من حليف سوى «حزب الله» ما اضطره لأن يرفع صوته عالياً لإعادة تعويمه من دون أن يتورط في مغامرة تقود إلى فك تحالفه الذي سيرفع من منسوب عزلته السياسية.