كتب د.أنطوان ز.صفير في “الجمهورية”:
في عيد مار مارون رائد مدرسة الرسالة والحياة، نستذكِر المحطات اللامعة بعد النشأة وبعد الانطلاق مع البطريرك الأول القديس يوحنا مارون في جبال لبنان حيث انتشرت العقيدة وتناغمت مع الجبال العَصيّة على الغزوات من كل صوب. فكانوا، وعن صدق، أهل الأغلَيَين: الإيمان والحرية. إيمانهم لم يتزعزع في قرون الظلم والظلام، حيث استوطنوا الأودية وحوّلوا الصخور جنائن غنّاء، وحافظوا على الهوية، وأعلوا دور الدين والعلم. وما مدرسة “عين ورقة” كأول جامعة في الشرق إلّا شاهدة أزلية، ومدرسة تحت السنديانة في كل دسكرة هي الشاهد على عشقهم للفكر بمعانيه الواسعة، فمنها انطلقوا الى بقاع الأرض، وكان المعهد الماروني في روما 1584 مرتع العلماء، حتى قيل فيهم في أوروبا: “أنت عالمٌ كماروني”.
من الأرض والحراثة الى المثاقفة والإشعاع، وأسماؤهم قد لمعت منذ القرون القديمة.
أما شغفهم بالحرية، فليس شعراً وجدانياً إنما مسار لا يهدأ خبرة شهادة واستشهاداً. وقد استوطنوا وادي قاديشا العميق ليحافظوا على الحرية بمعانيها السامية، فأضحى مقصد القادة والقناصل، وما فتئت حريتهم عنصر جذب وأمثولة لا يمر عليها الزمن. وما اختيارهم أرض لبنان سوى تأكيدا لتجسّد روحي- زمني آخر، حيث تشكل الحصن لهذه الحرية.
والحرية لا تتجزأ: حريتهم وحرية سواهم من الطوائف والجماعات والأفراد. وما إعلان لبنان الكبير ودستوره المدني الأوحد في هذه المنطقة إلّا المحطة الأكثر لمعاناً في مسار طويل مُكلل بالآلام المبرحة والآمال المحطمة، ويكفي أن نستذكر أنّ ثلث جبل لبنان قد هاجر، والثلث قد استشهد على دروب القيامة إبّان الحرب الكونية الأولى. أولا يستحق أهل الإيمان حريتهم المكلفة؟
أمّا قصتهم مع لبنان الدولة الوليدة مع اندحار المحتلّ في الربع الأول من القرن العشرين، فهي تكوين الحصن المنيع لأهل الحرية، وهذه أمثولة حية يتلوها بحسرة وإصرار مَوارنة الأمس على موارنة اليوم، لا بل رسالة سامية يحملها مسلمو لبنان الكبير ومسيحيّوه في بلد تعددي مدني. ربما لم نحسن إدارته او تطويره كنموذج عالمي، لكنّ روحية نظامه الرسالي تبقى عنواناً لحل الاختلافات الفكرية والثقافية والمذهبية. وإن تبدّلت معايير النظام الدستوري وأسس النظام السياسي فكلها ديناميات حكم ونظام، بينما روحية التفاعل والرسالة التي أرسَت لبنان الكبير تبقى عنواناً لدستور حياة حيادي ومُنتج طرحه البطريرك الراعي بإصرار.
أمّا لبنانهم، فلا يختلف عن لبنان سواهم من المجموعات اللبنانية التي تضع نصب أعينها مصلحة البلاد.
فإمّا مواطن في دولة مدنية تعددية وإلّا جزر البزنس – السياسي وقد رأيناها تجتاح خيرات البلاد، وقد استغلت السماء والتعاليم، وحوّلت أهل الإيمان من أكثر من صَوب متعصّبين غير رساليين، لا يعرفون ماذا يريدون، وسادت ثقافة الإفساد باسم الحفاظ على حقوق مزعومة للطوائف!
وقد انهارت الطبقة الوسطى حارسة الديموقراطية، وسيطرَ غُزاة البزنس-السياسي على النفوس، وطرح المواطن للمزايدة قبَيل كل انتخابات.
وأين لبنان… أراده الموارنة المجازفون حتى الشهادة من أجل حصن الحريات لكل طالب حرية وحياة؟
نعم، يريدون ألّا يصدقوا ما سمعوا أو أُسمِعوا. إذ تحوّل بعض قادتهم أحاديين من دون قضية غير الذات والـ”أنا”، وانكفأ أهل الفكر عن المنابر، وسيطر الجهل على كل باب. فسُلِّم جاهلهم جامعة وعُيِّن خبيثهم في دار صحة او إدارة.
وشاحَ بعض إكليروسهم عن الشهادة للحقيقة والعدل، وتعمقت في بعض المجموعات ثقافة الافساد الزمني.. وتناتَشَ بعض أهل الروح فتات أهل السياسة في تَزاوج مصالح سلبي غير مسبوق… واستُبدلت نضالات كفرحي ويانوح وقنوبين…. بطارئين لا يعرفون الحق ولا الحق يحررهم.
نعم، يريد الموارنة أن يَروا مؤسساتهم تنبض بالحب أولاً، وبأهل الرحمة لا ببعض الجائعين الى السلطة بمالها وجمالها، يمارسونها بلا روح، غير آبهين بما حذّر منه قداسة البابا فرنسيس من التحوّل الخطير للمؤسسات الى منظمات غير حكومية تتفاعل بلا روح.
يتخوف الموارنة… نعم، عندما لا يروا استراتيجية وظيفية واضحة تعطيهم ملامح الآتي من الأزمنة، وإلّا سيكون الغد أبشع من أيام الظلم والظلام.
ماذا يريدون؟
قادة سياسة يستشرفون المستقبل من أجل لبنان، لا من أجل سلالات وأزلام.
يريدون حكماء لا متحمكين، بالعدل حاكمين لا متسلطين، استراتيجيين لا جزيئيين، خداماً لأرزة لبنان لا متاجرين. ثوابتهم: سيادة لا تحتمل التأويل، واستقلالاً لا يتحمل الخضوع للخارج.
أما كنيستنا فمدعوّة الى المصارحة مع أبنائها، وهي ليست سلطة بالمعنى التقني بل بالفلسفة الروحية الشاملة، وقد شَوّه الصورة بعض مَن يختبؤن وراء التوقيع والتعيين وبعض “لفيفهم”، الذين لَو طُبّق التدقيق الجنائي عليهم لتساوى بعض أهل الزمن ببعض أهل الروح.
هل لبنان لهم أم هم للبنان؟ سأل البطريرك الكبير نصرالله صفير. وها هم يريدون أن يكونوا كما كل لبناني مخلص للبنان… دولة بكل المعاني.