كتبت هيام القصيفي في جريدة الأخبار:
من رافق مرحلة المفاوضات التي جرت مع العماد ميشال عون قبل اتفاق الطائف، يقارن بين أدائه نفسه في مواجهة الأزمات، وتحديداً في المرحلة التي تلت بيان اللجنة الثلاثية بعد القمة العربية عام 1989، وزيارة وزراء خارجية المغرب والسعودية والجزائر لدمشق، وفشل المفاوضات معها. في مرحلة ما بين اللجنة السداسية والثلاثية، واستمرار رفض عون لأي تنازل، رغم تحميل دول عربية سوريا مسؤولية فشل مهمة اللجنة واستمرار قصفها لبنان، حاول أحد القياديين الفلسطينيين الذي كان يتردّد إلى «بيروت الشرقية»، إقناع عون بملاقاة الدول العربية في منتصف الطريق. على اعتبار أن موقفاً عربياً متقدماً إلى جانب لبنان وعون وضد سوريا وحلفائها لا يمكن الاستهانة به. لكن عون ظلّ معانداً ومتشبثاً برفضه، ولم يأخذ بنصيحة القيادي الفلسطيني بالتجاوب والدعوة الى انتخاب رئيس جديد. رفضه أدى لاحقاً إلى الطائف وإلى الدخول السوري ولجوئه إلى فرنسا. ومع ذلك ظلّ متسلحاً بأحقيّة رفضه.
اليوم، يتكرر أداء عون نفسه في معركة تأليف الحكومة، ولن يكون من السهل انتزاع تنازل منه. فهناك جانبان للإحاطة بتأليف الحكومة، العامل الشخصي الذي لا يزال هو نفسه منذ التسعينيات، لا بل زادته معارك السنوات الأخيرة عناداً، ووجوده في قصر بعبدا جعله يكرر الأداء نفسه. طبائعه الشخصية وسلوكه السياسي يؤدّيان الى المسار نفسه، لا يتراجع ولو على خطأ. وكذلك هناك شقّ شخصي يجدر التوقف عنده يتعلق بالعلاقة الشخصية بين عون والرئيس المكلف سعد الحريري. فالكيمياء التي بدت لبعض الوقت موجودة بينهما، فقدت نهائياً، ولا سيما بعد استقالة الحريري في أعقاب 17 تشرين 2019. اعتبر عون أن الحريري طعنه في الظهر بالاستقالة، فكانت مطالبات سياسية من الرئيس عون والرئيس نبيه بري وحزب الله للرئيس الحريري بعدم الاستقالة، لكنه اختار التخلي عن الحكومة وهو الذي كان يفترض أن يقف مع هؤلاء في صف واحد بعد الهجوم الذي تعرّضوا له، علماً بأن هذه المرحلة التي شهدت أول ملامح انهيار الطبقة السياسية، التي كانت تريد إظهار تضامنها مع بعضها البعض. لكن الحريري فضّل التخلي عن شركاء التسوية، الأمر الذي لا يمكن لعون أن ينساه، وهو المعروف أيضاً بأنه لا ينسى أي انتقاد أو إساءة إليه، حتى من أقرب المقربين إليه في العائلة والتيار والتكتل والجيش وكل من رافقه على درب باريس وواشنطن وما بينهما. وزاد من فقدان عامل الثقة بينهما، عدم وفاء الحريري له بعد تسميته رئيساً للحكومة، بمشاركته في عملية التأليف.
أما العامل الدستوري، فيكمن في اقتناع عون بدستورية موقفه، وهو ما يوافق عليه سياسيون ليسوا من فريقه ولا من مؤيديه. دستورياً، عون محقّ في مطالبته بشراكة كاملة في تأليف الحكومة. من رافق الطائف، يعرف أن في مقابل الصلاحيات التي أُخذت من رئيس الجمهورية أبقيت له صلاحية أساسية يسميها هؤلاء «الحرد». والحرد له مفهوم أشمل من مجرد التوقيع على مرسوم تأليف الحكومة. لأن قوة الرئاسة تكمن في أن رئيس الجمهورية يملك صلاحية التأليف بقدر ما يملك صلاحية تعطيل ما لا يتناسب معه أو مع الدستور، كما أن يمتلك حصة وزارية تعادل الثلث بما يؤدي الى فرط الحكومة، وهو حقّ كان ينقل عن الرئيس رفيق الحريري أن رئيس الجمهورية لا يزال يملكه بعد الطائف. وهذا الحق الواسع بمفهومه لا ينفصل عن مطالعة دستورية لصلاحيات الحكومة بالمعنى الذي اعتمده رؤساء الحكومات السابقون بعد الطائف. فاجتزاء الدستور والصلاحيات، يعني حصراً، بالنسبة إليهم، اتهام رئيس الجمهورية بالتعدي على صلاحياتهم، من دون تناول موضوع مجلس الوزراء الذي تناط به السلطة الإجرائية، وليس رئيس الحكومة وحده المسؤول عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء، كما موضوع إقرار النظام الداخلي لمجلس الوزراء، الذي أغفله رؤساء الحكومات السابقون ولم يرتضوا العمل به. فيما حصروا مطلبهم الدستوري بالشق المتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية في عملية التأليف.
حتى الآن، لا يزال عون يتمسك بحقه الدستوري في مواجهة الضغوط الخارجية لثنيه عن تمسكه بحقه في المشاركة في عملية التأليف ومطالبته بالثلث المعطل، مع العلم بأنه على هامش عملية التأليف ارتكب وفريقه كثيراً من الأخطاء في إدارة عملية التفاوض. فكما بالغا في تصوير العلاقة المتينة مع الحريري في مرحلة التسوية وصياغة تحالفات وصفقات متبادلة، ذهبا بعيداً في الخلاف السياسي من دون الأخذ في الحسبان مدى الانهيار الذي يمر به لبنان يومياً، أمنياً ومالياً واقتصادياً. إضافة الى أنه كلما بالغ رئيس الجمهورية في نفي دور رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، أثبت العكس تماماً، فيما يُظهر الأخير أداءً حاداً في إدارة المفاوضات، ليس في اتجاه الحريري وحده، إنما أيضاً باتجاه بكركي، كما في اتجاه حلفائه. إضافة الى أن التذاكي في قضية الثلث المعطل والتحايل عليه، تارة رفضاً وطوراً موافقة ضمنية، من خلال تركيبة طائفية مسيحية حزبية، ما عاد يقنع أحداً.
أما الهفوات المتراكمة على طريق المحافظة على الدستور على يدَي رئيس الجمهورية، فلا يمكن حصرها بصلاحياته في التأليف الحكومي، في تنفيذ قانون الدولار الطالبي، وفيما يموت الناس على أبواب المستشفيات من دون أن يجدوا من يحميهم منها. هذا كله جزء أساسي أيضاً من دور رئيس الجمهورية الدستوري في حماية اللبنانيين في صحتهم ومالهم وتعليم أولادهم، تماماً كما حقه في المشاركة في تأليف الحكومة.