كتب حسين طليس في “الحرة”:
لم يعد “كليشيه” البحر والجبل والساعة الفاصلة بينهما يطعم خبزاً في لبنان. وكما كان البحر صيفاً، الجبل يعاني شتاءً، وما بينهما من ساعة انتقال في حال واحدة من الانهيار، مناطق مغلقة تماماً ومواسم تندثر أمام أعين أهلها، خسائر بالجملة وإهمال رسمي يزيد من كارثية الوضع.
يفتقد طريق أرز بلدة بشري، في هذه الفترة من السنة، إلى زحمة السير التي اعتادها على مدى السنوات الماضية. فالإغلاق العام المفروض على البلاد بسبب تفشي جائحة كورونا، حرم بلدة الأرز وجوارها من موسم “الذهب الأبيض” الذي ينتظره أبناء المنطقة من شتاء إلى آخر.
تصطف المحال العتيقة من بلدة حصرون إلى بلدة بشري وصولاً إلى الأرز، شمال لبنان، مقفلة أبوابها على كل ما استثمره أصحابها من أجل هذا الموسم. تقبع غابة الأرز الشهيرة، أقدس رموز البلاد السياسية والسياحية، وحيدة خالية من زوارها، محيطها مقفل تماماً، إلا ما ندر من مقاهٍ أغلقت أماكن الجلوس فيها، واستمرت فقط بتقديم بعض الأطعمة لأبناء المنطقة وقلة قليلة من زوارها.
مدرجات التزلج فارغة تماماً، وممنوع ممارسة هذه الرياضة حتى إشعار آخر. حاجز لقوى الأمن الداخلي يدقق في أذونات التجول عند مدخل المنطقة السياحية لبلدة الأرز، ويسأل عن وجهة الناس لمنع التجمعات وفرض مظاهر الإغلاق العام. وحدها الفنادق و”الشاليهات” وجهة مسموحة بعدما ارتادها عدد من اللبنانيين، مجموعات وعائلات، لإمضاء فترة الحجر الصحي بعيدا عن المدن.
يصف رئيس بلدية بشري ورئيس الاتحاد اللبناني للتزلج، فريدي كيروز، هذا الموسم بـ “الكارثي”، حيث أنه “انتهى قبل أن يبدأ، ووقع الخسارة كبير وأصحاب المصالح في الأرز باتوا معدومين. من لم يقفل مصلحته بعد كل ما جرى في لبنان من أزمات، حضّر نفسه لهذا الموسم، وانتظر أن يعوض خسائره الماضية”.
ويضيف “الناس اشترت بضاعتها، خاصة معدات وثياب الثلج وفقاً للأسعار الجديدة في لبنان ومن خارجه”، لكن الموسم لم ينطلق، وهنا بدلا من أن تقتصر الأضرار على وقف أعمالهم، تحول الأمر إلى “خسائر فادحة”.
“لا نعرف من أين نتلقى الضربات” تقول كوكب، صاحبة أحد المقاهي بجوار غابة الأرز، “حرام أن نسميه موسماً، قبل كل شيء الثلج نفسه تأخر كثيراً بالوصول هذا العام، وفي نفس اليوم الذي وصل فيه الثلج أعلن الإغلاق العام في البلاد بسبب انتشار جائحة كورونا، وتلقى قضاء بشري نصيباً كبيراً من التفشي، ومنع الناس من التجول”.
تشرح كوكب لموقع “الحرة” كيف كانت تتكل على موسم السياحة الشتوية لتأمين مصروف باقي السنة، وتقول: “مرّ علينا شتاء 2020، ثم صيفها، ويكاد اليوم ينتهي شتاء 2021 ولم نعمل على مدى ثلاثة مواسم، شهدنا ثورة وانهيارا اقتصاديا وسياسيا، ثم امتدت جائحة كورونا على موسمين”.
وتشير إلى أن “كل ما ننتجه اليوم نعتاش منه في اليوم نفسه، وإذا بقينا على هذه الحال سنغلق مصالحنا. لدينا إيجارات مستحقة وعمال وموظفين لا نريد الاستغناء عنهم، لكننا قد نضطر إلى ذلك إن لم يعد بإمكاننا تأمين معاشاتهم، سنة ونصف بلا عمل تضاعفت فيها الأسعار خمس وست مرات، والدولة لا تعرف إلا تفريخ الأزمات وفرض الإغلاق، لم يسألنا أحد كيف تأكلون ولم تصلنا أي مساعدة أو استراتيجية تتيح لنا العمل وتأمين مصاريفنا”.
وحده الصاج يعمل في مقهى كوكب، البضائع والمونة مكدسة في الداخل بعدما انعدم زبائنها في الخارج، لم يصرّف منها شيء. تروي كيف أنها اضطرت إلى حذف بعض المأكولات التي كانت تقدمها على لائحة الطعام كالبيبيروني ولحم الغنم بعدما بات تسعيرها وفقاً للأسعار الجديدة “أمرا مخجلا لنا وللزبائن”.
“حتى الموسم الزراعي هذا العام كان عاطلاً”، يؤكد كيروز، ويضيف “الناس التي زرعت زراعات شتوية وصيفية لم يستطيعوا أن يصرفوا إنتاجهم، لا أعرف كيف تعيش العائلات ولا تزال صامدة، بعض المتمولين يقدمون مساعدات والمغتربون من أبناء المنطقة يمولون عائلاتهم بجزء بسيط”.
حاول كيروز، ومعه معظم إدارات مراكز التزلج في لبنان من الأرز إلى فاريا وكفردبيان والزعرور وغيرها، منذ شهر نوفمبر، تدارك الأزمة قبل وقوعها وإنقاذ موسم التزلج، “وضعنا بالتنسيق بيننا سياسة وقائية وبروتوكول لإدارة مراكز التزلج خلال الجائحة، خاصة أن هذه الرياضة لا تشهد تخالطاً بين الناس، واعتمدنا على دراسات عالمية ومعايير معتمدة في مراكز التزلج في سويسرا ودول عدة، استمرت باستقبال الناس وفق ضوابط وقائية دون أن تقفل تماماً”.
يضيف كيروز: “وُعِدنا خيراً من قبل وزارة السياحة، إلا أننا تفاجأنا أننا لم نُشمل بأذونات الفتح التي قدمت لمجالات عدة في البلاد. وفي الوقت ذاته قبلنا بالمساواة مع كل البلاد التي أقفلت بانتظار إعادة الفتح بعد 10 أيام، ليتجدد الإقفال مرة أخرى دون أن يشملنا قرار الفتح للمرة الثانية. وبانتظار الإذن طار موسم التزلج”.
وقال: “لو أجروا مراجعة حقيقية للمبادرة لما أمكنهم القول إن محطات التزلج قد تشكل أزمة صحية أو خطراً، لكنهم لم يأخذوا الأمر من ناحية اقتصادية وإنسانية، حيث يعتمد أهالي المنطقة بـ 65 في المئة من مدخولهم السنوي على موسم التزلج. كان الطالب الجامعي من أبناء بشري يعمل في أيام العطل الشتوية على تعليم رياضة التزلج، فيستطيع تأمين أكثر من نصف مصروفه وتكاليفه الجامعية، اليوم لم يستفد أحد من هذا الموسم وانخفض مدخول العائلات”.
يعمل أحد أصحاب مصلحة تأجير “السكيدو” بالسر ملتفا على قرار الإغلاق العام وعن أعين القوى الأمنية، ولهذا السبب يرفض الكشف عن اسمه، يزود عددا قليلا من رواد الفنادق الباحثين عن متعة على الثلج خلال النهار بالـ “سكيدو” ليقوموا برحلات صغيرة تؤمن لصاحب المصلحة مصروفه اليومي في زمن الإغلاق.
يرى خلال الحديث معه أن القطاع يعاني من ظلم كبير، ويقول: “السكي ليس كغيره من الرياضات، طابعه فردي ويحفظ مساحات شاسعة، قد يكون آمناً أكثر من المنازل، لكنهم يصرون على المساواة في إغلاق كل القطاعات، مساواة بالكارثة بدلا من أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه، خاصة هذه المنطقة وهذا القطاع الذي يمثل رمزية خاصة وواجهة أولى للبنان، وبهذه السياسات العشوائية علمونا على الكذب والالتفاف على القانون لتأمين قوت يومنا، إذ لا يمكنني القول لأولادي لا أستطيع أن أطعمكم بسبب كورونا”.
وأضاف “على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها، إما أن تساعد، أو أن تتركنا نعمل، وكل الحق مع الذين نزلوا إلى الشارع معترضين في الفترة الماضية، ما عاد الاستسهال بعيشنا مقبولاً”.
في السياق ذاته، يؤخذ على الفنادق أنها الجهة الوحيدة التي عملت خلال فترة الحجر الصحي، لكن الواقع مختلف، يدركه أهالي البلدة وأصحاب المصالح فيها ممن لا يملكون فنادق أصلا، تقول كوكب: “الله يعين الفنادق يعملون بسعر التكلفة لا أكثر”، فيما يؤكد كيروز أن الكارثة ذاتها ضربت الفنادق والشاليهات والمطاعم “على حد سواء”.
إيلي رحمة، صاحب أحد الفنادق الشهيرة في المنطقة، يؤكد لموقع “الحرة” أن “الفنادق لا تزال تعمل بأسعار الصيف الماضي، فيما الكلام عن امتلائها محض شائعات.
ويقول: “لا يمكننا أن نستقبل بكل طاقتنا أصلا، بسبب جائحة كورونا ومنعاً للاكتظاظ، وبالكاد نستطيع تأمين تكلفة تشغيل الفندق بين موظفين ومستلزمات وتنظيفات وخدمة وتدفئة ومازوت، وفي بعض الأحيان ترتفع التكلفة عن الأرباح، نحاول الصمود لتمرير هذه المرحلة والحفاظ على زبائننا، لا أكثر ولا أقل”.
يؤكد كل من رحمة وكيروز أن الإقبال الذي حصل خلال فترة الحجر الصحي كان على الشاليهات الخاصة، وليس الفنادق كما يشاع، هؤلاء يؤجرون سنوياً وزبائنهم يصبحون كحال السكان في هذه المنطقة، لا يقع عليهم الاتكال في الموسم السياحي وإنعاش السوق ولا يصرفون أموالهم في المنطقة كما يفعل السواح الأجانب أو المحليون القادمين لتمضية أيام محددة”.
حتى بالنسبة لرواد الفنادق، يشرح رحمة أنهم ليسوا زبائن موسم التزلج، “فحتى نوعية السواح مختلفة، لم يعد يأتي الرياضيون وميسورو الحال إلى المنطقة لممارسة التزلج، وإنما مواطنون هاربون من الإغلاق العام ومنازلهم في المدن إلى ربوع الطبيعة، فلا مجموعات كبيرة ولا رحلات سياحية منظمة في ظل منع التجول، أكثرهم عائلات او أصدقاء بأعداد قليلة”.
ينتظر لبنان في المقبل من الأيام عاصفة ثلجية جديدة بحسب توقعات الأرصاد الجوية، قد لا تكون الأخيرة لهذا الموسم خاصة في ظل التقلبات المناخية التي يشهدها. عليها يعول أبناء منطقة الأرز، أن تطيل من موسمهم فيعوضوا عما فاتهم، وأن ترفع مستوى التراكم الثلجي على منحدرات التزلج التي لا تزال أدنى من معدلاتها السنوية.