كتب علي العزير في جريدة الأخبار:
عن عمر ناهز التسعين عاماً، انطفأ الممثل اللبناني نتيجة إصابته بمضاعفات فيروس كورونا. أحد أبرز وجوه الدراما اللبنانية، ترك وراءه أرشيفاً غزيراً في السينما والتلفزيون، إلى جانب عمله النقابي ذي السجلّ النظيف. نقابة الممثلين اللبنانيين نعت الراحل الذي «طبع المرحلة الذهبية لتلفزيون لبنان»، إلى جانب كوكبة من مجايليه كمحمد شامل، وشوشو، وعلياء نمري، وهند أبي اللمع، وفريال كريم، وصلاح تيزاني، ومحمود سعيد، وإبراهيم مرعشلي وغيرهم
لو أمكن للزمن الجميل أن يحظى باسم آخر لكان ميشال تابت (5 نيسان / أبريل 1930 – 9 شباط /فبراير 2021) هذا الاسم بغير جدال. الرجل الأنيق، الشاب الأشيب، الباسم بلا سبب، المُقنع بدون جهد، العفوي حتى البساطة والمتميّز على كثير من العادية المفرطة. لطالما احتار الناس في ميشال تابت: أعجزهم أن يمنحوه هوية إبداعية يسعهم الركون إليها: هل هو ذلك الشرير المحترف في مسلسل «ابن الحرامي وبنت الشاويش» (1971)؟ هل هو ذلك الطيب حتى السذاجة كما في أعمال شتى ليس أقلها «ابراهيم أفندي» في الثمانينيات؟ هل هو الرجل المتّزن الموضوعي الذي جسّده في «الطاغية» (2007)؟ ميشال تابت مزيج من كل ذلك، وهو غير ذلك أيضاً. النقيب الحريص على أبسط شؤون المنتسبين إلى نقابته من الممثلين والفنانين، هو نفسه العجوز المتصابي الذي يغوي النساء بسهولة فائقة، وهو ذاته زعيم العصابة الذي يحيل القوانين إلى لعبته المفضلة، وهو أيضاً القروي الساذج الذي تستفرد به المدينة فيناكفها حتى النهاية، ولا يترك لها فرصة النيل من طباعه المحبّبة.
ميشال تابت هو الممثل الذي كان يكفي وجوده في عمل تلفزيوني حتى تنتفي صيغة الصفوف الأولى ومثيلاتها الخلفية. حيث يكون الرجل يعقد الإصغاء مجلسه، وترفع الدهشة رايتها… صادق حتى الثمالة، وعابث حتى كما لو أن الجدية عنصر طارئ على مقوّمات العيش.
منذ طفولته في «مدرسة مار نوهرا»، كان التمثيل ضالة ميشال تابت. بسببه ربما اختار أن يقتحم سوق العمل صغيراً، هو لم يتابع دراسته، امتهن الحلاقة ليبدأ بعدها رحلته صوب الفن. أسّس فرقة «النهضة الفنية» ثم شارك ميشال تامر وجورج قاعي في فرقة «الأرز الفنية» سنة 1966 وكان «العاشق الشارد» عملها المسرحي الأول. ثم اقتحم الثلاثة عالم السينما بجسارة لافتة، لتقدم فرقتهم فيلم «عذاب الضمير» سنة 1975 وأفلاماً عدة شارك ميشال تابت فيها كإداري. بعدها، ترك الفرقة ليعمل في مهنته، الحلاقة إلى جانب مكياج للأفلام، محافظاً على حضوره الراسخ كصاحب موهبة واعدة. في عام 1978، كانت إطلالته التلفزيونية الأولى في أول عمل درامي «المدير الفني» من إخراج إلياس متى.
يكاد ميشال تابت أن يكون الأخير بين كوكبة من أهل الفن الراقي الذين حفر أهلها لهم حضوراً راسخاً في الذاكرة المشهدية. هم فعلوا ذلك اعتماداً على مقوّمات مفرطة في تواضعها، وفي زمن تقني متقشّف لم يترك لهم سوى خيار الاعتماد على قدراتهم الذاتية. تواضع الحقل وضآلة قدراته لم يمنعا الحصاد من أن يأتي وفيراً. هكذا استعصى ميشال، وأبناء جيله على النسيان: فيليب عقيقي، عوني المصري، محمد شامل، حسن علاء الدين (شوشو)، لمياء فغالي، ليلي كرم، علياء نمري، نادية حمدي، هند أبي اللمع، نهى الخطيب سعادة، فريال كريم، صلاح تيزاني، محمود سعيد، ابراهيم مرعشلي وآخرون… حافظ هؤلاء على مكانتهم في الإرث الفني العريق، متكئين على مواهبهم المتأصّلة في ذواتهم، لم يحظوا بفرص انتشار مدروسة، لم تتح لهم إمكانية الإفادة من سبل الترويج المستحدثة. لكن ذلك لم يعن لأحدهم شيئاً… أمكنهم أن يكونوا نسيجاً متميزاً من ثمرات الإبداع النقي برغم القحط والجدب ورعونة الريح.
في جعبة ميشال تابت الكثير من الأعمال العصية على النسيان: ما يزيد على 2500 حلقة تلفزيونية، وقرابة الأربعين من الأفلام السينمائية، و2000 من الحلقات المدبلجة، إضافة إلى العديد من الأعمال المسرحية. أما تجربته النقابية فستبقى متفرّدة في نقائها وصفائها حتى إشعار تاريخي آخر.