تَقاسَم المشهد اللبناني عنوانان بارزان، الأول وقفة وداع الناشط لقمان سليم، المعارض لـ «حزب الله» وما حملتْه وقائعها من رمزيات على أكثر من مستوى، والثاني محاولة «التقاط» ما أمكن من إشاراتِ ما بعد اللقاء الذي جَمَع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري (مساء الاربعاء) في الاليزيه والذي كانت الأزمة الحكومية المتمادية طَبَقه الأساسي.
وكما جاء اغتيال سليم في جنوب لبنان (3 فبراير) صادِماً ومدجّجاً برسائل في أكثر من اتجاه فجّرت سيلاً من الأسئلة التي ما زالت من دون أجوبة حول القاتِل، ما خلا الاتهامات السياسية لـ «حزب الله» من خصومه، فإن مَراسمَ تكريمه لم تَخْلُ من عناصر «مباغتة».
… من جغرافيا الوداع، في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت في منزل سليم (الغبيري)، مروراً بما بدا بمثابة «إنزال ديبلوماسي» في عقر دار «حزب الله» للسفيرة الأميركية دوروثي شيا التي حضرت وألقت كلمة لافتة ومعها السفير الألماني وسفيرة سويسرا وممثل السفارة البريطانية الذين عكست مواقفهم الداعية لكشف الحقيقة وتوقيف المجرمين ما يشبه «التدويل» لمطلب التحقيق الشفاف والسريع، وصولاً إلى زحمة المُشاركين من مختلف الطوائف، وليس انتهاء بحضور رجال دين مسلمين ومسيحيين وكلمات أفراد العائلة وفي مقدّمها «الأم الحزينة»… كلها طبعتْ يوم وداع مَن اختار أن يرقد في حديقة بيته.
ورافقتْ مَراسم التكريم التي أقيمت أمام النصب في الحديقة إجراءاتٌ أمنية مشددة للجيش اللبناني الذي واكَب اليوم الطويل الذي استمر لساعات كان خلالها المنزل مفتوحاً أمام معزّين ومتضامنين، وبينهم وجوه طبعت مرحلة ثورة 14 مارس 2005، حتى وصف النائب السابق باسم السبع تعليقاً على الاحتفال التكريمي «وداع لقمان اقتحام حضاري للمربّع الأمني لحزب الله».
وبدأ التكريم بآيات من القرآن الكريم (عاد قارئ القرآن وظهر في فيديو يعتذر عن مشاركته بعد تعرّضه لحملة من مناصري «حزب الله») ثم صلاة على راحة نفس سليم تلاها الأب جورج صدقة وبعدها دعاء لروحه من أحد رجال الدين الشيعة أعقبته تلاوة مجلس حسيني عن روحه وتراتيل مسيحية.
ثم ألقت والدة سليم سلمى مرشاق كلمة العائلة، وتوجهت فيها الى الشباب اللبناني بالقول «إن كنتم تريدون وطناً عليكم ان تستمروا بالمبادئ التي استشهد لقمان من أجلها. الحِمل ثقيل عليكم، اقبلوا فكرة الحوار ومنطق العقل ليكون وطن يستحقه لقمان.
ابتعدوا عن السلاح الذي لا يفيدنا فقد أضاع ابني».
ثم تحدّث السفير الألماني اندرياس كندل الذي دعا «إلى ضرورة معرفة الحقيقة والحاجة لتحقيق شفاف»، قبل أن تتوجّه السفيرة الأميركية بكلمة للعائلة وأصدقاء سليم أكدت فيها «فخورة ان أقف اليوم بينكم لايصال تعاطفي معكم بشكل شخصي».
وقالت: «خسرنا وصعقنا بفقدان رجل عظيم بسبب هذا العمل البربري الذي لا يُغتفر»، مثمنة دور لقمان في «سعيه لتحقيق المصالحة بين ابناء الشعب اللبناني وتعزيز حريتهم واندماجهم، وهذه الجهود لا ولن يمكن قمعها من خلال الخوف أو العنف»، ومشدّدة على «ضرورة الوصول الى حقيقة مَن ارتكب هذه الجريمة الشنيعة ومحاسبته».
وأكدت شقيقة لقمان، رشا الأمير، ان «القتلة يستمرون بكل لحظة في قتل هذا البلد الصغير، وسفراء الدول تداعوا للمشاركة وسيطالبون بتحرك النيابات العامة مع علمهم المسبق أن الضغط لن يثمر أي نتيجة، وأنا أعرف حقيقة من قتل شقيقي وهذا يكفي».
وفيما ترافق الوداع مع بيان لنحو 200 ناشط وسياسي أهدي لروح سليم ودعا لجبهة وطنية «لمواجهة الاحتلال الإيراني»، دعت كتلة نواب «حزب الله» الأجهزة القضائية المختصة للعمل سريعاً على كشف مرتكبي جريمة قتل الناشط لقمان سليم»، مشيرة إلى «أن الحملات الإعلامية التحريضية ضد حزب الله تستوجب الملاحقة والمساءلة لأنها لا تخدم سوى العدو الصهيوني».
ولم يحجب هذا العنوان الأنظار عن مسار تأليف الحكومة الذي كان البعض يراهن على أن يساهم لقاء ماكرون – الحريري الذي أقيم على مأدبة عشاء واستمرّ ساعتين بإحداث خرْق فيه، قبل أن تُبْرِز المناخات التي سادت بيروت أمس أن لا المسرح الداخلي جاهِزٌ لتلقُّف المبادرة الفرنسية بطبعتها الأخيرة التي تقوم على تشكيلة اختصاصيين غير حزبيين بعيداً من أي محاصصة سياسية أو ثلث معطّل، ولا «نصابُ» التقاطُع الاقليمي – الدولي الكفيل بأن يشكل رافعة لأي تسوية «قابلة للحياة» قد اكتمل، في ظلّ إدارة طهران «محركات التسخين» في غالبية ساحات نفوذها في غمرة التدافع الخشن على تخوم تحضير أرضية المفاوضات حول النووي الإيراني وسقوفها وملحقاتها، وصعوبة تَصَوُّر كيفية استيلاد حلول للأزمة اللبنانية بمعزل عن ملف سلاح «حزب الله» المرتبط بأدوار إيران في المنطقة.
ولم يكن أدلّ على استمرار «التمترس» الداخلي حيال شروط التشكيلة الحكومية، من قول قريبين من فريق الرئيس ميشال عون وإعلامه، «لعل زيارة الرئيس المكلف لباريس تقنعه بالمبادرة الى الحل» وأن المشاورات الخارجية مآلها عند «مكتب رئيس الجمهورية، الذي يبدي رأيه بالتشكيلة، شكلاً ومضموناً، وبكل الأسماء، فإما أن يقتنع يوقّع، أو لا يقتنع فلا يوقع»، وأن صيغة الـ 18 التي قدّمها الحريري انتهت لمصلحة أخرى من 20 او 22 وزيراً، وهو ما كان مصدراً سياسياً قريباً من الحريري ردّ عليه، عبر التعليق على ما تردّد ليل الأربعاء عن صيغة عشرينية جديدة يُعمل عليها، بأن ذلِك «يقع في خانة التمنيات أكثر من الوقائع، وأن شيئاً لم يتبدّل حتى الآن في المسار الحكومي».