للمرة الأولى في تاريخ المجلس النيابي تحدث استقالة جماعية لعدد من النواب ولأسباب سياسية.. حصل ذلك نهاية الصيف الماضي وبعد أسابيع على انفجار مرفأ بيروت عندما قدّم ثمانية نواب استقالاتهم وهم: سامي الجميل ـ إلياس حنكش (المتن)، نعمت افرام (كسروان)، نديم الجميل ـ بولا يعقوبيان (الأشرفية)، مروان حماده (الشوف)، هنري حلو (عاليه)، ميشال معوض (زغرتا).. لم تكن هذه الاستقالات «عبثية» وإنما جاءت في إطار رفع درجة الضغوط على السلطة الحاكمة عبر خطوات عملية تتجاوز هذه المرة حركة الاحتجاج في الشارع إلى حركة احتجاج سياسي أخذ شكل الاستقالة من البرلمان، وفي إطار استراتيجية هادفة إلى الدفع باتجاه انتخابات مبكرة واضطرارية بعدما تكون الاستقالات ضربت الشرعية الميثاقية لمجلس النواب وتوازناته ونالت من مصداقية تمثيله الشعبي والطائفي والسياسي.
ولكن هذه الاستقالات لم تحقق هدفها بعدما كان النواب الذين بادروا إلى هذه الخطوة توقعوا وبنوا حساباتهم على أساس أن سبحة الاستقالات ستكر وأنهم هم البادئون وغيرهم سيلحقونهم تحت ضغط الشارع وغضبه، وكانت الأنظار والتوقعات تتركّز على ثلاث كتل اساسية: «المستقبل» ـ «القوات» ـ «الاشتراكي».
وبعدما أظهرت «القوات» استعدادا وجهزت نوابها للاستقالة، فإنها عادت وصرفت النظر عن الخطوة بعدما فوجئت بأن سعد الحريري ووليد جنبلاط، اللذين أعطيا إشارات أولية في هذا الاتجاه، غيرا موقفهما او ان إشاراتهما كانت مضللة وغير جدية.
فمن جهة يتفادى الحريري وجنبلاط استفزاز الصديق والحليف الرئيس نبيه بري وإغضابه.. ومن جهة ثانية يتهيّب الرجلان فكرة الذهاب إلى انتخابات مبكرة لعدم جهوزيتهما وعدم تحبيذهما إجراء الانتخابات على أساس القانون الحالي (النسبي مع صوت تفضيلي) الذي يعطيهما أقل بكثير من القانون السابق (الأكثري).. وإذ ذاك وجدت «القوات» ان استقالتها لوحدها غير كافية لتغيير الوضع والدفع باتجاه الانتخابات وان استمرارها في مجلس النواب ومن موقع المعارضة يبقى أفضل و«أجدى»، وهذا ما ظهر لاحقا في التأثير الذي مارسته في موضوع التدقيق الجنائي.
كان من المفترض بعد هذه الاستقالة الجماعية، التي وافق عليها بري على الفور وعقد جلسة نيابية سريعة للبت بها، ان تتم الدعوة إلى انتخابات فرعية لسببين على الأقل: الأول قانوني دستوري لأن الحكومة ملزمة بإجراء الانتخابات الفرعية خلال شهرين من تاريخ الشغور.. والثاني سياسي يتصل بالتوازنات الطائفية والسياسية في البرلمان لأن العدد غير قليل (خصوصا بعدما ارتفع إلى عشرة نواب بوفاة النائبين جان عبيد وميشال المر) وأكثرية هؤلاء هم من النواب المسيحيين (9 من 10) إضافة إلى أن تناقص عدد مجلس النواب من 128 إلى 118 نائبا من شأنه أن يطرح مسألة النصاب القانوني للجلسات النيابية خصوصا الحساسة منها.
قبل فترة، سرت تكهنات ومعلومات بأن هناك اتجاها في الحكم إلى إجراء انتخابات فرعية مطلع يونيو المقبل وعلى سبيل إجراء «اختبار مبكر» لاتجاهات الرأي العام واستكشاف مدى التغيرات التي طرأت على الأحجام الشعبية للقوى السياسية بفعل التطورات الكبيرة التي حصلت بعد انتخابات العام 2018 من انتفاضة «17 تشرين» إلى انفجار بيروت.. ومن الأزمة المالية الاقتصادية إلى الضائقة الاجتماعية والمعيشية.. وهذا الاختبار يجري بشكل خاص في المناطق المسيحية، لأن المعارك معروفة النتائج في الشوف وعاليه وزغرتا، والمعارك الفعلية هي في الأشرفية والمتن وكسروان، وفي هذه الدوائر الثلاثة تتواجد قوى سياسية وحزبية كبرى (التيار ـ القوات ـ الكتائب)، اضافة إلى قوى محلية فاعلة ومؤثرة مثل ميشال فرعون وأنطوان صحناوي (الأشرفية) نعمت أفرام (كسروان) الطاشناق والقومي (المتن).
سرعان ما تبين ان ما حُكي وأُشيع عن انتخابات فرعية انما حصل من باب «جس نبض المواقف وردود الفعل»، وان هذا الطرح سحب من التداول لأسباب عدة منها ما يستخدم كذريعة مثل جائحة «كورونا» وعدم وجود حكومة، ومنها ما يبقى خفيا مثل التأثير السلبي لمثل هذه الانتخابات على الطبقة السياسية الحاكمة لأنها ستوفر فرصة للرأي العام للتعبير عن رأيه وغضبه ونقمته وستكون الانتخابات بمنزلة «فرصة انتقامية» ذهبية.
لا «انتخابات فرعية» على أجندة السلطة، والأسباب التي تدفع إلى عدم إجراء الانتخابات الفرعية هي ذاتها التي تدفع إلى استبعاد الانتخابات المبكرة التي تطرحها بعض القوى كمفتاح للتغيير ومدخل إلى تغيير الأكثرية الحاكمة وإعادة إنتاج سلطة تمثل الشعب والمناخات الجديدة.
واذا كان هناك من يدعو إلى الإقلاع عن فكرة الانتخابات المبكرة بسبب اقتراب موعد الانتخابات العامة بعد سنة و«ما بقى تحرز».. فإن هناك من يبدي الخيبة والتخوف من ألا تجري الانتخابات النيابية في موعدها وأن يبرز مجددا احتمال ومشروع التمديد للبرلمان الحالي لحسابات متعددة أولها «سياسية ورئاسية» وحيث يراد للأكثرية الحالية أن «تصمد» ويراد للمجلس الحالي أن ينتخب رئيس الجمهورية المقبل.