كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
الحب في زمن الأوبئة، الصحية والاقتصادية والسياسية، ليس مثله في زمن الأحلام والوعود والآمال. والحب في زمن المصارف وتصريف الأعمال ليس كما الحب في زمن الورود الحمر والثورات. حب الورود والوعود له عيد يحتفى به، اما حب الأوبئة فخوف وقلة وإحباط ونار تكوي الجيوب. يأتي فالنتاين هذا العام بيد فارغة مخجولاً من نفسه، متعكّزاً على قلوب عاشقة لا على أكياس ملأى بالهدايا، يأتي وحيداً بعد أن خاصمه التجار وعاندته الأسعار، يفتش عن مكان له في بلد أقفل على نفسه أبواب الحياة والرزق والحب.
في عرضٍ “مغرٍ” جداً بمناسبة فالنتاين أطلقت محمصة بيطار في النبطية توليفة مميزة: مخلوطة + وردة + سترينغ بس بـ 15000 ل.ل… بعضهم شكك في أن يكون العرض للسنة الحالية لأن الأسعار أروع من أن تصدق، وبعضهم هلل لبادرة إنقاذية أعادت الى العشاق “بالرخص” إثارة العيد…
نحن كنا من المشككين، اتصلنا بصاحب المحمصة عبد بيطار لنتأكد من النوايا والأسعار، “خلي العالم تعيش، شو المشكلة، خليهن ينبسطوا حتى ولو بخسارة” فالرجل مقتنع بفكرته أطلقها ليحرك السوق ويفرفح قلوب الشباب الطفرانين غير القادرين على شراء هدية للحبيبة كما يقول. بالنسبة إليه العرض غير مربح لكنه “مش عم بلحّق بيع” وهو مستعد أن يقدمه بلا مقابل لمن يحتاج، البزورات (او المخلوطة) من عنده ولديه مصادره الخاصة للورد وحتى للسترينغات فعلامَ التردد؟ المحمصة فاتحة أبوابها فهي من المستثنين المحظوظين في المرحلة الثانية من التعبئة، والدليفري جاهز لمن لا يستطيع إليها وصولاً. وتعميماً للفائدة نعلنها بشرى لكل العشاق: هديتكم حاضرة، والمشوار الى النبطية يثلج القلوب والجيوب.
لكن ما استطاعه عبد بيطار عجز عنه الكثيرون من التجار الذين وجدوا أنفسهم إبان فالنتاين مكبلين من كل الجهات: الإقفال العام، غلاء الأسعار وطفر العشاق… هي صرخة يطلقها هؤلاء بعد ان اطلقت إجراءات الإقفال المتشددة رصاصة الرحمة على موسم كان يترنح منذ سنتين نتيجة تضافر كمّ من الظروف الصعبة عليه، موسم كان ينتظره التجار من عام الى عام ليحيي الحركة التجارية في الأسواق في عز موسم الشتاء البارد تجارياً.
صرخة الورود
بائعو الورد هم أول الصارخين وأكثر المظلومين، فهم أم الصبي ومن دونهم لا يحلو عيد ولا عشق. الورود الحمر تكاد تغيب هذه السنة فالمستوردون كانوا متخوفين من الوضع ولم يشتروا من الحبشة والهند وأوروبا كمية كبيرة من الورود كما اعتادوا، فالتسديد بالدولار والدولار مفقود والظروف لا تنبئ بالخير. أما الانتاج الوطني فبسيط ولا يكفي السوق المحلية. يخبرنا أحد اصحاب محلات الأزهار انه اعتاد ان يبيع أكثر من 7000 وردة في هذا النهار وما قبله لكن منذ سنتين بدأت الأمور تتغير، سنة 2019 أطلت الأزمة الاقتصادية برأسها فتراجع المبيع بشكل ملحوظ وجاءت سنة 2020 المشؤومة لتنسف موسم فالنتاين حتى قبل وصول كورونا لأن هموم الناس كانت في مكان آخر بعد الثورة ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الى أن حل هذا العام وغاب الموسم كلياً. يكاد صاحب المحل يبكي وهو يخبرنا أن عائلات ثلاثاً تعتاش من المحل لكن الظروف كسرتهم ويرفض ان يتمادى في الحديث أكثر.
يسعى أصحاب محلات الأزهار للتواصل مع المسؤولين علهم يسمحون لهم بفتح أبوابهم لبضعة أيام قبل عيد العشاق فيستفيدوا من الموسم ويردوا بعضاً من خسائرهم، لكن حتى اليوم لا حياة لمن تنادي وفق ما يخبرنا السيد إيلي هادو صاحب محل ازهار. لماذا يمكن للمشاتل فتح أبوابها فيما نحن محرومون من هذه النعمة، يسأل هادو؟ هم استغلوا الظرف على حسابنا، باعوا ما باعوه للزبائن وأصحاب صفحات البيع أونلاين لأن مشاتلهم مفتوحة بحجة أن عليهم العناية بشتولهم فيما لم يسمح لنا بفتح محلاتنا. لا أحد يحكي باسمنا وليس من نقيب يطالب، نحن لا نشكل أي خطر على الزبائن، فمحل الأزهار لا يستقبل أكثر من زبون واحد كل مرة ولا تحدث فيه زحمة كما في السوبرماركت او غيرها. لماذا لا يسمحون لنا بتلبية طلبات زبائننا وهم خارج المحل كما تفعل محلات السمانة او السندويشات؟
على دولار 1500 ليرة كان ربحي في أسبوع فالنتاين يقول هادو بين 10 الى 15 مليوناً اي مضروباً بثلاثة لبضاعة يوازي سعرها 5 ملايين وكنت من خلاله أسكر عجز شهر كانون الثاني الذي يعتبر شهراً ميتاً. اما هذه السنة فالبيع يكاد يكون صفراً وحتى لو وصل الى 5 ملايين على سعر دولار يقارب 9000 فهو ليس أكثر من 600 او 700 دولار ما يعني أنني لا ازال خسران، “هذا ليس شغلاً” يقول صاحب محل هادو فلاورز.
ماذا عن البيع أونلاين ألا يحل المشكلة قليلاً؟ لا يمكن الاعتماد عليه يُجيب، فنحن لا نتكل على بيع وردة او اثنتين بل على البوكيهات الكبيرة وهذه يجب تعقيمها أولاً ولا يمكن إرسالها على الدراجة النارية بل يجب ارسال سيارة لتوصيلها سالمة وهنا علينا اخذ إذن وتحمل تكاليف التاكسي والتعرض لضبط المخالفة… الأمر كله لا يستأهل لأن الربح محدود. “انشالله بيع 40% من كمية الورود التي اشتريتها أونلاين”.
أزمة فالنتاين هذا العام لا تقتصر فقط على بائعي الورود بل على الشارين أيضاً فالأسعار في الظروف العادية تكون ناراً في هذا اليوم فكيف في سنة ليس فيها أي شيء عادياً؟ الوردة الواحدة تبلغ جملتها اليوم ما بين 6000 الى 12000 ليرة حسب طولها ونوعها ويضاف إليها الـ emballage والأكسسوارات من أوراق خضراء ومتممات وهذه كلها ارتفعت اسعارها بشكل جنوني، فورقة النايلون وحدها صارت بـ2500 ليرة بينما كانت كل 20 ورقة تباع بـ6000 ليرة. لذا بحسابات بسيطة ندرك ان دزينة الورد الأحمر بات سعرها يتراوح بين 120000 و150000 ليرة فيما على العاشق المغرم أن يدفع ثمن الوردة اليتيمة قرابة 15000 ليرة إن أراد الحفاظ على طقوس العشق وتقاليده.
لا شك ان في السوق اسعار أرخص ولا سيما عبر صفحات الأونلاين التي لا تشتري إلا وفق طلبات زبائنها ولا تخسر الستوك المتبقي عندها كما انها لا تبالي كثيراً بالنوعية سيما وان بعضها قد فتح لهذا الموسم فقط ليبيع ما يبيعه ثم يختفي عن الشاشات وفق ما عرفنا…
محلات مقفلة وموسم غائب
كل ما يدور في فلك فالنتاين أصابه الدوار هذا العام: الدباديب الحمراء، القلوب، الشموع، الفناجين، الكوسان، البالونات، البطاقات وكل ما يعانق اللون الأحمر يدور في أرضه حائراً لا يجد له منفذاً. فادي شويري صاحب محلات Cartes et promotions اعتاد أن يكون في محله ما بين 40 الى 50 منتجاً مختلفاً خاصاً بسان فالنتاين في سنوات العز، هذه السنة ليس هناك أكثر من منتجين فقط. بالونات الهليوم التي تعتبر منتجاً رئيسياً في فالنتاين ارتفع سعرها بشكل كبير مع ارتفاع سعر غاز الهليوم، وصار سعر البالون الكبير الحجم الذي كان يباع بـ 40000 ليرة سابقاً 120000 اليوم وهذا طبعاً مبلغ خيالي. كل ما هو مستورد تضاعفت كلفته ثلاث مرات يؤكد فادي “وبتنا نبيع بعض القطع من دون ربح”. حتى أكياس الهدايا والعلب الكرتونية الخاصة بفالنتاين والتي كانت مطلوبة جداً سابقاً لم تعد مطلوبة هذه السنة. فالمحلات مقفلة وقلة من الناس اشترت هدايا للعيد. نحن كتجار فكرنا بالاعتصام ضد التسكير علّ المسؤولين يستجيبون لمطالبنا ولكن لم تتبلور هذه الحركة بعد، وفي الانتظار محلاتنا مقفلة والموسم غائب لا سيما بالنسبة للذين لا يتعاطون البيع أونلاين.
نسأله ماذا عن بطاقات فالنتاين التي عرفتم بطباعتها؟ يجيب شويري ان قطاع الطباعة انطفأ كلياً والمتوافر في السوق هو البطاقات الصينية التي تباع بأسعار مقبولة في بعض المكتبات المختصة بالأمر، اما الطباعة المحلية فمقتصرة اليوم على الستيكرز الخاص بالأصناف المدعومة!!!
مؤلم وضع محلات الـ”غادجيت” والألعاب التي اعتادت الاتكال على موسم فالنتاين لتحقيق بعض الربح، لقد ذبحها الإقفال ذبحاً تقول آدلين صاحبة أحد المحال. هنا البضائع بمعظمها صينية الصنع ومقبولة الأسعار رغم الارتفاع الذي شهدته ويمكن إيجاد قطع مختلفة بدءاً من 10000 ليرة ما يجعلها مناسبة للجميع. كان يمكن استغلال هذا اليوم تقولها بحسرة لكن الدولة لا تفكر بالناس، آخر همها إن عاشوا أو ماتوا وإلا فما معنى منع المحلات الصغيرة من فتح أبوابها؟ هل ستساهم في نشر كورونا في البلد؟ أم أن اصحابها متروكون ليموتوا جوعاً ويقفلوا متاجرهم؟
تجار الجملة الكبار يشكون بدورهم من سوء الموسم، السيد هاني أبو جودة صاحب محلات JNA Sons للبيع بالجملة يقول: نحن كمستوردين لم نشتر بضاعة هذه السنة ولا أحد من التجار فعل. فمنذ السنة الماضية بدا الموسم سيئاً لا بالنسبة لفالنتاين وهو يعتبر موسماً صغيراً بل حتى بالنسبة للأعياد الكبرى أيضاً. سنة 2018 كانت الأفضل ثم بدأ التراجع الى ان حلت الكارثة في 2021. سعر الصرف قتلنا ولم تعد أرباحنا تمكننا من تجديد بضائعنا هي بالكاد تكفي لتسكير رواتب الموظفين. وما نحصّله من التجار الصغار يكون عبر المصارف وليس نقداً ولا يمكننا ان نسحب منه ما يكفي لمصروف تشغيل محلاتنا. مصيبة حلت على كل الناس يقول ابو جودة وما عيد العشاق إلا جزء صغير منها. بعض الأصناف التي نستوردها من اميركا مثل البالونات لم يتم تصنيعها بكميات كبيرة هذا العام نظراً لأزمة كورونا ونحن اليوم نبيع بضائع عام 2019 وكاذب من يقول العكس. الأونلاين ليس حلاً لتجار الجملة ولا نأمل بالبيع بسبب الإقفال، والمصائب ستظهر عند انتهاء اللوك داون.
على الرغم من كل الضيق من حولهم يحاول العشاق ان يقتطعوا لهم فسحة حب زاهية في صحراء الواقع القاحل، ويبحثون عن لفتات بسيطة تمد الجسور بينهم وبين من يحبون في زمن التباعد (هذا إن تجرّأوا على لقياه). كريس وجد ضالته بلا بحث أو انتظار التسليم اونلاين، هديته وجدها في الفرن، فالأفران مفتوحة والذهاب إليها مسموح بإذن والدليفري مؤمنة وكل الأفران اعدت للمناسبة قلوباً بكل الأحجام والنكهات من الكاتو والكوكيز والكاب كايز والدوناتس والشوكولا تناسب الجميع وإن باسعار أغلى بمرتين أو ثلاث أحياناً عن السنة الماضية (رغم كون الطحين لا يزال مدعوماً) ويتراوح سعر “الحبة” بين 8000 و12000 ليرة وهدية الفرن بتحلي وبتسلي. زمن قوارير العطر انتهى واللانجري انزوت في زوايا المحلات المقفلة وصارت خيارات العشاق محصورة بين الفرن ومحمصة بيطار…