كتب حسين عبد الحسين في جريدة الراي الكويتية:
لبنان وحيدًا… ليس على لائحة أولويات واشنطن أو العواصم الأوروبية. الرئيس الفرنسي حاول اعطاء انطباع بأن بلاده تهتم لمصير اللبنانيين، لكن زيارات ايمانويل ماكرون الى لبنان لم تتعد كونها حملة علاقات عامة هدفها تصويره وكأنه يستعيد موقع فرنسا كقوة عالمية. أما الحقيقة، فمفادها بأن الأوروبيين، وفي طليعتهم فرنسا، يستميتون لعودة الولايات المتحدة للاتفاقية النووية مع إيران لإعادة احياء العقود الضخمة معها.
حصة باريس وحدها من العقود الإيرانية كانت نحو 20 مليار دولار، خمسة منها وقعت عليها شركة «توتال» لتطوير حقل بارس 11 الجنوبي للطاقة، و15 ملياراً تمثل نصف قيمة العقد الذي وقعته شركة «ايرباص» العملاقة للطيران، وهي شركة فرنسية – ألمانية. ماكرون لن يجازف بعلاقته مع طهران بضغطه على«حزب الله» من أجل لبنان.
في واشنطن، أهمية للبنان أدنى منها في باريس. الرئيس السابق باراك أوباما استخدم لبنان كجائزة ترضية للأميركيين المعارضين للاتفاقية مع إيران.
في 15 تشرين الأول 2015، وقع أوباما على الاتفاقية النووية التي كانت تقضي بانهيارها في حال أظهر أي من الطرفين عدائية للآخر، أي في حال فرضت واشنطن عقوبات جديدة على طهران أو في حال أخلّت إيران بأي من التزاماتها النووية.
بعد شهرين من توقيعه الاتفاقية النووية، وقّع أوباما في 18 كانون الأول 2015 قانوناً، كان صدر بإجماع الكونغرس، وهو قانون العقوبات على «حزب الله».
لم تعترض إيران على القانون، بل مضت في رحلة شهر العسل مع أوباما، ووقعت عقودا بقيمة 30 مليار دولار مع شركة «بوينغ» الأميركية العملاقة للطيران.
بكلام آخر، أفضت الاتفاقية النووية إلى رفع العقوبات عن إيران، وتشديدها في الوقت نفسه على حليفها، أي «حزب الله». ولم تعترض إيران، ولا حتى بتصريح.
هذه المرة، الاقتصاد الإيراني في أزمة أعمق بكثير مما كان عليه في 2015، وهو ما يعني أن طهران أكثر استماتة لعودة أميركا للاتفاقية النووية، ما يعني أن طهران أقل اكتراثاً لمصير «حزب الله» أو لبنان.
طهران لن تزج لبنان في حرب مدمرة مع إسرائيل لأن هذه الحرب محفوظة كخط دفاع أخير لوجود النظام الإيراني، وهو وجود ليس مهدداً حالياً، لا من قريب ولا من بعيد.
هذه المرة أيضاً، الإدارة الأميركية أكثر وداً بكثير من سابقتيها تجاه طهران، إذ بسبب نفوذ اللوبي الإيراني وسيطرته على السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن، تسلم الملف روبرت مالي، وهو من الأميركيين القائلين بضرورة «إنهاء الكولونيالية» العالمية، أي الأميركية اليوم، كمفتاح السلام في العالم وازدهار الشعوب. و«إنهاء الكولونيالية» هذا، بالنسبة لمالي، يعني الوقوف على خاطر أنظمة الدول التي ستتفاوض أميركا معها، مثل في إيران وسورية.
الرئيس بشار الأسد لم يعد لاعباً إقليمياً، بل هو بالكاد يمسك سورية خارج الجيب الذي يسيطر عليه، في وقت تسيطر إيران على بقية البلاد.
أما النظام الإيراني، فالأرجح أن مالي ينوي التفاوض معه على كل شيء، لا على النووي فحسب، وهو ما يعني أن مالي سيبحث في كيفية انسحاب أميركا من المنطقة، وتسليم مفاتيحها إلى مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، بما في ذلك لبنان، وسورية، والعراق، واليمن، وأمن المنطقة.
الاتجاه الأميركي لإدارة بايدن، وقبله الأوروبي نحو إيران، لا يشي بأن أميركا أو أوروبا تشعران بمسؤولية تجاه دول منطقة الشرق الأوسط، خصوصا الدول ذات الأهمية الاستراتيجية المنخفضة، مثل لبنان وسورية، وهو ما يعني أن مناشدات بطريرك الموارنة بشارة الراعي لتدخل دولي، مثل وضع لبنان تحت سيطرة مجلس الأمن، هي مطالبات لا تعدو كونها أماني، ولا فرص واقعية لها لتتحول إلى سياسة خارجية، لا في أميركا ولا في أوروبا.
الراعي يعمل بتوجيهات الفاتيكان، الذي يخشى اندثار المسيحيين في المشرق بشكل كامل، إذ بعد تدهور أعدادهم في شمال العراق وسورية بسبب حروب «داعش»، صار وجودهم في لبنان مهدداً بسبب الأزمات المعقدة، الاقتصادية والمعيشية، والتي لا يلوح في الأفق أي ملامح لانفراجها. ومطالب الفاتيكان والراعي للبنان، بسيطة، وتتمثل بوجوب تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559، الذي ينص على حلّ الميليشيات وفي طليعتها «حزب الله»، كما تنص القرارات الأممية على العودة الى اتفاقية الهدنة للعام 1949 بين لبنان وإسرائيل، وينص القرار 1701 على ضرورة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، خصوصا لتحديد ملكية مزارع شبعا وتلا كفرشوبا.
ومن شأن الهدنة مع إسرائيل وحلّ الميليشيات أن يؤدي إلى استقرار، ومن شأن الاستقرار أن يسمح بنمو اقتصادي، وهو ما يعني انفراج الأزمة المعيشية، ويدفع لبقاء المسيحيين وتفاديهم الهجرة. لكن لا أميركا ولا أوروبا في وارد فرض تنفيذ أي من القرارات الدولية، على الرغم من التباهي الفارغ لبايدن بأن إدارته ستعود للالتزام بالمؤسسات الدولية واتفاقياتها.
عدم المبالاة الدولية هذه حوّلت إيران إلى لاعب أوحد في لبنان، فعمد «حزب الله» إلى مهاجمة الراعي ومبادرته، وفي الوقت نفسه إلى تشتيت الانتباه عن القضية الأساس، أي تطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بلبنان، عن طريق إشغال الرأي العام اللبناني والعالمي بموضوع تشكيل الحكومات المتعاقبة، وهو موضوع يستنفذ كل الانتباه، ويغرق البلاد بتفاصيل دستورية وسياسية لا تأثير لها في العملية الإنقاذية.
لبنان وحيداً. لا اهتمام أميركياً أو دولياً بغرقه وسيطرة «حزب الله» عليه، فيما عودة أميركا وإيران للاتفاقية النووية لن تؤدي إلى رفع الحزب عن لائحة الإرهاب أو تحسين موقع لبنان. جلّ ما ستفعله الاتفاقية هو إعادة تعويم الخزانة الإيرانية، ما يعني زيادة في التمويل الإيراني للحزب اللبناني، وتاليا زيادة في إمساك الحزب بلبنان، من دون أي قدرة فعلية له على إنهاء الأزمات الاقتصادية والمعيشية القاتلة، التي سيواصل رميها على السياسيين، العاجزين عن كل شيء بسبب سطوته.
لبنان وحيد. لا يهتم له العالم، ولا إيران، ولن يخرج من أزمته ما لم يدرك اللبنانيون، وفي طليعتهم «حزب الله»، أن خروج البلاد – لا خروج الحزب وحده – من الأزمات المميتة، يتطلب تلقف مبادرة الراعي، والعودة إلى الترتيبات التي رافقت الحقبة الممتدة بين الهدنة مع إسرائيل في 1949 و«اتفاقية القاهرة» التي سمحت بالعمل الفدائي للميليشيات الفلسطينية في لبنان ابتداء من العام 1969.
هذه الفترة هي التي يسميها اللبنانيون بـ «الذهبية»، وهي التي يطالب الفاتيكان والراعي بالعودة إليها، وهي التي يرفضها «حزب الله» وإيران، التي تفضّل إبقاء لبنان قاعدة صاروخية لها بمثابة بوليصة تأمين لبقاء نظامها في حال تعرضها يوماً لأي تهديدات وجودية من الخارج.