كتبت زيزي اسطفان في جريدة الراي الكويتية:
حين يحتلّ الحزن كل الأماكن، هل يترك مكاناً للحب؟ حين يتحوّل الإحباط أسلوبَ حياةٍ ماذا يبقى من شعلة الحب وفرْحته؟ هل يمكن للحب أن يزهر في أرض مدمّرة وقلوب مشلّعة؟ أسئلة يطرحها اللبنانيون على أنفسهم ويتردّدون في إيجاد جواب لها. فلا هم يصدّقون أنهم باتوا قادرين على استبعاد الحب من حياتهم ولا هم مستعدّون لنسيان واقعهم والتعلّق بحبال القلب ومشاعره، ولو ليوم واحد. بين الحب والأزمات يتأرجحون، يحلمون أن تكون الغلبة للحب وان تزهر براعمه في صحراء واقعهم اليومي لكن يُصدمون بالواقع يتوعدهم كل يوم بأزمات جديدة.
حين حاولنا الاتصال بعدد من المشاهير اللبنانيين لنستطلع منهم رأيهم حول الحب في «زمن كورونا وأخواته»، فؤجئنا بأن أحداً منهم لم يُبْدِ ارتياحاً للكلام في هذا الموضوع وكأن الحب بات في حقبة الأوبئة والأزمات من المحرّمات أقله النفسية.
الكاتب والصحافي بول شاوول بأسف قال لنا: «الحزن يملأ قلبي ولم يترك فيه مكاناً لأي شعور آخر». اما الممثل الشاب وسام حنا فاعتذر حين سألناه قائلاً: «آسف لست في مزاج يسمح لي بالحديث عن هذا الموضوع».
… واستمرّ سعينا مع عدد من المشاهير، فتذرّع كل منهم بحجة ليتهرب من الكلام عن الحب وكأنه بات موضوعاً باهتاً تجاه كمية الألم التي يعيشها الشعب اللبناني ومقارنةً بكمّ الهموم التي يرزح تحتها… من قلب بيروت الجريح الذي لا يزال نازفاً ولون الدماء التي سُفكت فيها قبل نحو ستة أشهر مع «بيروتشيما» يطغى على كل أحمر، مروراً بجرح العائلات التي يتوفى كبارها وأبناؤها بكورونا بأعداد فاقت التصوّر تاركة قلوباً مفجوعة، وليس انتهاءً بكوابيس الانهيار المالي – الاقتصادي وما يخلّفه من أحزمة فقر وبؤس لا تنفكّ تتسع من دون أن يكون فيها مكانٌ لـ «نبض» فرح وأمل.
حزن على حبيب رحل
مَن فقدوا أحبة لهم باتوا أكثر حساسية اليوم تجاه الحب، فهم يدركون جيداً أن خسارتهم لن تعوّضها الأيام، وأن فرحة الحب لن تطرق بالهم ولا بابهم في الوقت القريب ولا في الأعوام المقبلة. خطيب شهيدة الإطفاء سحر فارس التي ذهبت في «مهمة مستحيلة» يوم الانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت في الرابع من اب الماضي لن يعيش سعادة الحب التي انتظرها مع مَن اختارها قلبه، ولن يردد على مسامعها كلمات رقيقة. ناجاها حيثما هي في عيد مولدها معبّراً عن شوقه لها قائلاً:
«كتير صعبة يا أميرتي، يا اختي، يا امي، يا رفيقتي وخطيبتي وزوجتي المستقبلة يلي سرقتها ايد الغدر والإجرام منّي… كتير صعبة عيّدك وانت مش حدّي، ما فاجئك وجبلك ورد وهدية ونتعشى سوا، كنتِ إلي حياة سرقوك منّي وسرقوا حياتي منّي وصارت تافهة ما الها طعمة. سحر، سحوّرتي الحلوة، غنّوجة قلبي، قلبي احترق وجرحي كبير وعم يكبر كل يوم أكتر والغصة أكبر ويلي قال الايام بتبرد القلب غلطان، قلبي كل يوم عم يغلي متل البركان بدو يحس بحنانك وقلبك. اشتقتلك بجنون يا أميرتي».
ايلي، زوج الحامل سوميا نهرا التي توفيت بسبب كورونا بعد الولادة مباشرة لم يكن قادراً على قول أي كلام إثر وفاتها ولا يريد التحدث بموضوع يؤلمه الى هذا الحد. فكيف يبوح بمشاعره مَن فقد رفيقة عمره التي خطفها الموت في عزّ شبابها تاركة طفلاً رضيعاً لم تره، وطفلة لم تتجاوز سنة ونصف من عمرها. ماذا يمكن أن يقال لرجل فقد نصفه الآخر وأي كلمات حب يمكن أن تعني له شيئاً بعد اليوم.
سامية أم لتوأمين يبلغان تسع سنوات من العمر، أفقدها انفجار بيروت زوجها الذي كان يعمل في المرفأ: «نعيش العذاب كل يوم، إنها حرقة العمر. أولادي حرموا من كلمة بابا كل العمر». فهل يمكن تجاه آلام هذه الأرملة المجروحة والأم التي ألقي على عاتقها عنوة تربية توأمين وحيدةً أن يحكي أحدهم عن الحب في حضرة ألمها.
حب تائه وسط صعوبات الواقع
تطول وتطول القصص الحزينة في بيروت وتضاف إليها قصص أشخاص تكسرت عندهم أحلام المستقبل وانهارت وعود الحب والسعادة في حياتهم. شبان وشابات أغرموا و حلموا ببناء مستقبلهم معاً، خططوا وجهدوا لتامين بيت وتأسيس عائلة، فإذا بالأزمة الاقتصادية تبعثر أحلامهم وتطيح بكل آمالهم.
أقساط المنزل الزوجي صارت موجعة مع انهيار سعر العملة وتداعياته الكارثية، والزفاف بات حلماً صعب المنال، وتأسيس عائلة أطاح به فقدان الوظائف وانخفاض الرواتب وغياب أي دعم مادي من أي جهة.
هؤلاء العشاق الشباب الذين جمع الحب بين قلوبهم وساروا على دربه معاً بغية الوصول الى بر الأمان وجدوا أنفسهم تائهين في وسط الطريق. فلا هم قادرين على التنكر لمشاعرهم ولا على إكمال الطريق معاً. بات الحب عبئاً عليهم يقودهم نحو مفترق طرق يصعب معه الاختيار، فإما البقاء في بلد لم يعد فيه أمل ببناء مستقبل مشترك مع مَن يحبون أو الهجرة الى بلد واعِد وترْك مصيرالأحبة في مهب الخوف والتساؤل عن الغد.
… تبدّلت أحوال اللبنانيين وتراجع الحب في حياتهم. وبين الخوف من التقاط عدوى كورونا، والاضطرار الى الالتزام بإجراءات اٌلإقفال العام، والمعاناة من ارتفاع الأسعار، نسي اللبنانيون الحب أو وضعوه في «ثلاجة القلب» ريثما تنجلي الأمور.
هو موجود حتماً في أعمق مشاعرهم ويجهدون الى التمسك ببعضٍ من حلاوته في يومياتهم لكن مَظاهره اختلفت وطرق التعبير عنه تبدّلت. لا شك أن المَظاهر التجارية التي اعتادتْ أن ترافقَ «فالنتاين» أو الاحتفاء به والتي كان لبنان يتحوّل معها «قلباً كبيراً» وعلبة حبّ حمراء، غابت هذا العام عن في ظل اٌلإقفال التام الذي فرضته إجراءات الحد من انتشار فيروس «كورونا» كما الواقع الاقتصادي – المعيشي الكارثي.
بعض هذه المظاهر ظهر بشكل خجول جداً على الصفحات الافتراضية ليس لإفراح قلوب المحبين وإشعارهم بحلاوة المُناسبة، بل لجني بعض الأرباح المالية عبرها من تجار أو حرفيين توقفت أعمالهم كلياً وباتوا يكدسون خسارة فوق خسارة.
سهرات المطربين والمغنين احتجبت بفعل الإقفال التام ومنع السهر فاللبنانيون تعلّموا الدرس من فترة الأعياد السابقة التي شهد بعدها البلد ارتفاعاً جنونياً في أعداد المصابين بكورونا والتزموا بيوتهم. وللمرة الأولى منذ أعوام ربما ابتعد الفنانون عن المسارح والحفلات وغابت صور الكثيرين منهم بالأحمر عن صفحاتهم على مواقع التواصل كما غابت مظاهر الاحتفالات وكأن لبنان بكل أطيافه يتضامن مع نفسه ومع كل الموجوعين فيه ويبتعد عن «طقوس» حب وفرح وحياة أدمنها طويلاً.