كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
لم يسبق لمسلسل الإشتباك بين قصر بعبدا وبيت الوسط أن بلغ هذا الحدّ من “التسطيح” للخلاف، وتبادل الاتهامات بالكذب والتكاذب على اللبنانيين. هكذا، أسقط رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وبضربة قاضية، المعنى الوجداني لذكرى 14 شباط، ليركّز خطابه السنوي على هدف واحد: تكذيب الرئاسة الأولى ومعها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، من خلال كشف بعض من وقائع التأليف.
جلّ ما أراد إيضاحه، هو أنّ كلّ الضجيج الذي رافق اللقاءات الـ16 التي عقدت منذ تكليفه برئاسة الحكومة، لا تمتّ للحقيقة بصلة، بدءاً “باللائحة الملوّنة” التي تسلّمها من رئيس الجمهورية والتي رافقها الكثير من الجدل والتشكيك بحقيقة وجودها أصلاً، وصولاً إلى تركيبة الحصّة المسيحية ومدى الليونة التي أبداها الحريري في تسمية وزراء هذه الحصة، رداً على اتهامه بالتشدد من باب وضع يده على “حقوق المسيحيين”، كما يشكو الفريق العوني الذي تغافل أن سلوك الحريري مكبّل بضوابط موضوعة دولياً، تفرضها المبادرة الفرنسية التي تلقّفها الجانب الشيعي من اللحظة الأولى مبدياً تأييده لها ضمن هوامش محددة.
هكذا، ومنذ مدّة غير قليلة، تتجنّد دوائر الرئاسة الأولى ومعها إعلام “التيار الوطني الحر” لتوثيق الردود والردود المضادة من باب الدفاع وتبرير ما يقوم به هذا الفريق إزاء مشاورات التأليف، وكلها تصبّ في خانة تسطير الأسباب والدوافع التي تملي على هذا الفريق صدّ محاولات رئيس الحكومة لتأليف الحكومة. تارة تحت عنوان “الإعتداء” على الحقوق، وطوراً تحت عنوان تجاوز صلاحيات رئيس الجمهورية بمشاركة رئيس الحكومة في التأليف.
ولكنّ سلوك الفريق العوني لم يُقنع المشككين بحقيقة الخلفيات التي تدفع الرئاسة الأولى إلى ردّ الحريري في كلّ مرة يقصد فيها قصر بعبدا، خائباً، لتزيد من القناعة بأنّ ما تقوم به الرئاسة الأولى ليس سوى تحقيق لهدف واحد: تأمين مستقبل جبران باسيل من خلال استخدام ورقة الحكومة التي دخلت باريس على خطّها من خلال مبادرتها، وصارت مطلباً حيوياً لها لتأمين ممر لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط عشية رسم خريطة النفوذ في المنطقة. مع العلم أنّ فرنسا ليست وحيدة في هذا المجال، والخريطة المطروحة لها إلتزامات مع دول أخرى داعمة لهذا المسار، بيّنتها جولة الحريري الأخيرة.
في الواقع، فقد صوّب الخطاب العوني إحداثيات سهامه الدفاعية، على فكرة أساسية، وهي الحقوق المسيحية المُعتدى عليها من جانب رئاسة الحكومة. وقد تناسى هذا الفريق أنّ رأس الكنيسة الكاثوليكية، أي البابا فرنسيس اضطر للتدخل من خلال تصويب النقاش الحاصل، ودعوة السياسيين ورجال الدين في لبنان إلى “وضع مصالحهم الخاصة جانباً والالتزام بتحقيق العدالة وتطبيق الإصلاحات، والعمل بطريقة شفافة وتحمّل نتائج أفعالهم”.
وطالب البابا فرنسيس بـ”ضرورة أن يحافظ لبنان على هويته الفريدة، من أجل ضمان شرق أوسط تعدّدي متسامح ومتنوع، يقدّم فيه الحضور المسيحي إسهامه ولا يقتصر على كونه أقلية وحسب”. وهذا الخطاب موجّه إلى “التيار الوطني الحر” بشكل خاص الذي يعتبر نفسه الأكثر تمثيلاً، سلطوياً، وشعبياً. وما لم يقله الفاتيكان، هو أنّ سياسة تضييع الوقت والهروب للأمام لن تؤمن مصالح المسيحيين ولا مقومات صمودهم.
أكثر من ذلك، تشي المؤشرات بأنّ هذا الفريق لا يعتقد بأنّ لدى الحريري أوراق قوة تسمح له بإبقاء مرسوم التكليف في جيبه إلى أجل غير محدد، وبأنّه لا يزال بالنسبة لفرنسا وبعض الدول الإقليمية، الخيار المتوفّر لقيادة المرحلة الانتقالية، ومقتنع بأنّ الرهان على المتغيّرات الخارجية ستزيحه من المعادلة. كذلك يصمّ آذانه على ما حققه الحريري في جولته الأخيرة، ولو أن المعطيات أتت دعماً لموقفه حتى من جانب روسيا وإيران.
وبالتالي إنّ “الإنتقاص” من تكليف الحريري، بحجة عدم تمكّنه من انتزاع شرعية المملكة السعودية، لا يُطعم خبزاً ذلك لأنّ “التيار” كان أكثر المتحمسين لحكومة حسان دياب المنزوعة الدسم العربي. ولا يزال حتى اللحظة يروّج لطرح تسمية مرشح جديد لرئاسة الحكومة، حتى لو لم يجد له أي داعم اقليمي!
يخوض العونيون معركتهم على قاعدة “يا قاتل يا مقتول”، وبكونها آخر معارك العهد “حتى لو كانت حكومة حسّان دياب المستقيلة آخر حكومات ميشال عون”، ولكن من دون تقديم أي موجبات مقنعة للرأي العام تبيّن أهمية هذه المعركة وفائدتها وأهدافها. لا بل ثمة قناعة لدى شريحة كبيرة من المسيحيين أنّ نهاية هذه “الحرب” قد تقضي على الإرث والرصيد العونيَين والوجود المسيحي نهائياً، بعد أن يكون قد هاجر سوادهم الأعظم وترك البلاد بمن فيها!
اذ، على الرغم من سيل البيانات والردود والتغريدات، لم ينجح الفريق العوني في تقديم خريطة طريق واضحة تظهر استراتيجيته من هذه المعركة وما هي بدائلها، في وقت كان يفترض بجميع الأطراف أن يستغلوا هذا الظرف لوضع أوراق مشاريع اقتصادية ومالية انقاذية تمنح اللبنانيين بعض الأمل. واذ بالحروب الكلامية تزيد من احباطهم ويأسهم.
ولعل أكثر ما يثير الاستغراب بالنسبة لشريحة كبيرة من المسيحيين هو توقيت هذه المعركة في وقت تشهد البلاد انهياراً غير مسبوق على المستويات كافة، بمعنى أنّ الرأي العام فقد قدرة تحمّله أي معارك إضافية ملتبسة في أهدافها، بينما كان يفترض أن يخوض العونيون هذا الاشتباك حين كانت قواعدهم قادرة على المواكبة وتأمين ظهير قوي وحين كانت العلاقة مع “تيار المستقبل” في أحسن أحوالها، خصوصاً وأن المعركة ليست مبدئية أو عقائدية. أضف إلى ذلك، فإنّ مكانة “التيار” باتت أصلاً موضع تشكيك، سواء لناحية تماسك “تكتل لبنان القوي”، المتراص شكلاً، والمهزوز ضمناً، أو لناحية متانة التنظيم الحزبي، أو القواعد المؤيدة… أو حتى الحلفاء السياسيين.