كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
في الألوان، يتدرج “الليلكي” من البنفسجي الفاتح. وفي الجغرافيا، تقع منطقة “الليلكي” في قضاء بعبدا. وفي النفوذ، هي واقعة في جلباب الثنائي الشيعي وفي الوقائع: هي منطقة يرفع بعض من فيها السلاح حين يحلو لهم، ويقتلون كما يحلو لهم، ويسرقون وينهبون ويبقون في الغالب خارج العقاب. وفي الإنتماء والأصل والنسب، هي منطقة تطغى فيها العشائرية. وفي التشابه، مثلها مثل بعلبك – الهرمل حيث الإصبع على زناد البندقية و”الآر بي جي” متوافرة غبّ الطلب في مواجهات آل زعيتر وآل مشيك وآل طليس وآل مقداد وآل حجولا في صراعهم المستديم. فهل هذا أمرٌ طبيعي في دولة لبنانية مفلسة؟ وماذا عن دور قوى الأمر الواقع في مناطق يرفع كثيرون من أهلها صورة السيّد والأستاذ قبل الراية اللبنانية؟
مواجهات عنيفة حصلت قبل يومين، وشهرين، وعامين، وعقدين، و”بين بين”، في مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت وفي البقاع وبعلبك والهرمل مات فيها من مات وعاد القاتل الى بيته بسحر ساحر وكأن شيئا لم يكن، الى حين انطلاق جولة أخرى وثأر جديد وقصّة جديدة. وهكذا دواليك. وآخر الضحايا في منطقة الليلكي في ضاحية بيروت الجنوبية، وليس آخرها على ما هو سارٍ، الشاب، إبن العشرين عاماً، عباس صفوان (زعيتر).
مات عباس. مات قبله كثيرون. ولا شيء يوحي أبداً بأن مسلسل الموت المجاني السهل، تحت ذرائع الثأر وفي ظل فائض القوة، سينتهي. فلماذا يحصل ما يحصل؟ الباحث السياسي الدكتور نسيب حطيط يراقب ما يدور ويحصل تباعاً ويقول “ما رأيناه في الضاحية الجنوبية، وما نراه تكراراً في البقاع، من تفلّت أمني له جذوره التاريخية في مناطق لم تعش نعمة الدولة الراعية وإنما عاش ناسها الدولة التي تطاردهم لأنهم مطلوبون. من هنا بدأت ثقافة التمّرد وتلازمت مع ضرورات الحماية الذاتية بأي وسيلة، لأن الناس ادركوا ان فكرة الدولة لا تزيد عن محضر ضبط او دعوى قضائية ونشرة أمنية”.
فلنسلم جدلاً أن هؤلاء الناس الذين تُطبع بأسماء أسرهم جرائم السرقات والمخدرات والثأر والمواجهات، التي تعصى على كل القوى الأمنية الشرعية وقوى الأمر الواقع العسكرية، بحثوا عن الدولة ولم يجدوها. فهل هذا يبرر أفعالهم المتتالية؟ هل يُبرر هذا أن يُقتل عباس صفوان (وكل من سبقوه) وكأن شيئا لم يكن؟ أين القتلة؟ أين حاملو السلاح المتفلت؟ أين العقاب؟
تعيش الليلكي، كما مناطق كثيرة في محاذاتها، كما بريتال والهرمل وبعلبك، وحارات “كل مين إيدو إلو” حرماناً وإهمالاً، وتعاني ظروفاً إنسانية وصحيّة وبيئية وإجتماعية واقتصادية وأمنية وتربوية وثقافية لا تحسد عليها. ويقول حمزة الأمين، الموجود الآن في النجف، والذي له صفحة على إحدى وسائل التواصل الإجتماعي باسم “أهالي وأبناء حي الليلكي “أن المشكلة تكمن في أن سكان الليلكي وسواها مسلحون وجميعهم يريدون أن يكونوا “روس”، وفي المقابل هناك أناس يتأذّون في أرواحهم وممتلكاتهم وكأنه “لا دولة” ويستطرد بالقول “منذ أسابيع قليلة أجرينا مصالحة بين آل مشيك وآل حجولا. تدخل المصلحون والأجاويد. وتمت بعون الله المصالحة بين العائلتين. والبارحة، منذ أيام، اندلعت المواجهات بين آل حجولا وآل زعيتر. أتت الدولة وعادت وغادرت بدل أن تبقى أربعة أو خمسة أيام الى حين يبرد الدم”.
الدولة تتلكأ. ولكن، ماذا عن “حزب الله” وحركة أمل اللذين تتصدر أعلامهما وصور قادتهما الأحياء التي تحكمها العشائر ويحدث فيها الموت؟ أليس من مسؤولية قوى الأمر الواقع، التي لا يُفصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود بلا إشارة منها؟
يتحدث نسيب حطيط “عن محاولات قامت بها الأحزاب لكنها لم تنجح، وما زاد الوضع سوءاً غياب الأثر الإجتماعي وتفشي الفقر والبطالة ووجود أكثر من ثلاثين ألف مطلوب في البقاع، لا يمكن حصولهم على وظيفة. ناهيكم عن أن أكثر من 90 قرية في البقاع لم يكن فيها مدرسة قبل عقدين.كما لم يكن هناك مستشفى في الهرمل. كل هذا الوضع السيئ زاد الطين بلّة. بإزاء كل ذلك، تبدو الأحزاب وكأنها لا تريد أن تتورط متذرعة بأن الدولة هي من يفترض بها أن تتولى المسؤولية كاملة . والدولة “تتحجج” بالأحزاب التي تقدم حماية الى هؤلاء. وهذا عزز الفلتان الأمني، في ظل صمت عارم، والصمت يشجع الفاعل على تكرار الفعل والتفلت” ويستطرد حطيط “الأحزاب تواجه إشكالية تمنعها من أن تحسم، لأنها إذا فعلت ستكون بين نارين، وسيخرج من يقول أنها تشكل دولة ضمن الدولة، كما ستواجه مشاكل مع العشائر والمحيط”.
الدولة عاجزة والأحزاب أيضاً والفلتان يسري كما النار في الهشيم. وها هي الضاحية الجنوبية، كما البقاع، غابة مفتوحة على كل أنواع الفلتان.
أحمد جوني، صديق قتيل الليلكي عباس صفوان، يستغرب الكلام الدائم عن عشائر وأخذ بالثأر في المناطق التي تشهد فلتاناً أمنياً ويقول “عباس كان إنساناً رائعاً. وهو ينتمي الى بيتٍ يضم أشخاصاً في القوى الأمنية الشرعية أي “ولاد دولة”. وأهله رفضوا الأخذ بالثأر وتقدموا بدعوى أمام القضاء ليأخذ حقهم وحق عباس” يضيف “حزب الله وحركة أمل أهملا مناطقنا والدولة تركتنا لهما. صحيح أن هناك “زعران” في هذه المناطق لكن السكوت عن الحقّ والأمن مشاركة في الجريمة. والحزب والحركة يحاولان أن يعملا في مناطقنا بطريقة ذكية ويفضلان الإبتعاد عن العشائر والقبض على “زلاعيمهم” لأنهما يتصرفان على أنهما سيعوزانها ذات يوم. فيتصرفان “لا معها ولا ضدها”.
سرقة موتوسيكل (دراجة نارية) أدى الى استخدام الآر بي جي. والى موت وجرحى وتدمير بيوت في الليلكي. وهناك، في بريتال، تابعوا ما حصل في الليلكي معلنين على لسان أحد الفاعليات في البلدة: “إشتباكات الليلكي لعلها خير، ربّما يشعر أصحاب القرار بخطورة ما أوصلونا إليه”. فماذا قصد الحاج بما قال؟ يجيب “لا تريد الأحزاب أن تهدأ الأرض، لأنها تريد أن يبقى “الشيعة” في حال صراع، يتلهون في ما بينهم، ولا يجدون وقتا للتفكير بعمق، لأن من يفكر كثيراً يتردد كثيراً في خيار المبايعة العشوائية”. ويزيد: “ليست قيادة الاحزاب ربما من تعبث في الأرض لكنها تترك الى “زلمها” ذلك. فها هو مسؤول المنطقة في بريتال ح. النمر، الذي ينتمي الى حزب الله، يغطي الزعران. ورئيس فرع مخابرات البقاع سابقا كان يترك الأمور على غاربها لألف سبب وسبب. غير أن خلفه اليوم، العميد علي عواركه يتصرف برقي شديد ونعوّل عليه”.
ما هو وجه الشبه بين الليلكي وبريتال؟ يجيب ابن بريتال: “هؤلاء يتعلمون منا، يقلدوننا، لذا نتمنى أن تشعر الدولة بمعاناتنا، من خلالهم” ويستطرد “أهل بريتال أشرف الناس في لبنان لكن على أيام الإسرائيليين ارتأت الأحزاب وجود بريتال على هذا النسق، إنطلاقا من معادلة خلقها السوريون تقول: بريتال مقابل جزين. وحين انسحبت إسرائيل ارتأوا أن تكون بريتال مقابل عرسال. تريد الأحزاب إخافة الآخرين بنا. مع العلم أن في بريتال 15 “أزعر”، لا أكثر ولا أقل، فاتحين على تغطية من بعض الأمنيين الشرعيين وعلى الثنائي الشيعي الذي يريد من بريتال، كما من الهرمل وبعلبك، كما من الليلكي وجوارها، أن يكون الناس مشاريع “صويتين” (ناخبين) ومقاتلين. وما عدا ذلك يهملون مناطقنا. خذوا مثلا وظائف الدولة التي يسيطر عليها الرئيس نبيه بري نجح فيها ذات يوم 35 شيعياً 28 منهم من البقاع و7 من الجنوب، وبين ليلة وضحاها قلبوا النتيجة فأصبح 28 من الجنوب و7 من البقاع”.
يشعر شيعة البقاع بأنهم شّماعة للأحزاب وللدولة. والفلتان الذي ينفذ باسمِ مناطقهم ليس إلا تدبيراً من “روس كبيرة”.
نعود الى نسيب حطيط (وهو جنوبي) لسؤاله عن الحلّ الذي لم يوجد منذ أكثر من عقدين فيجيب “يحتاج الحلّ الى وجود ميثاق وإعلان صادقين يتلازم فيهما القول والفعل، فيُخففان الفقر ودائرة الفلتان التي جعلت من مناطق بقاعية صحراء إستثمارية. وهذا التصحّر يقترب أيضا من الضاحية الجنوبية حالياً. وهي إذا أصيبت به، إضافة الى الحصار الخارجي، ستشتد الضائقة ويشتد الخطر ويزيد عن أخطار تموز 2006. لذا الصمت يعد خيانة وهو لا يجوز أبداً، كما أن التعامل مع الفلتان بالمعطى الإنفعالي واستسهال إستعمال القوة، سيجعل المناطق الشيعية سائبة وخطيرة. والخطط الأمنية يفترض ألّا تكون ظرفية”.
أكثر من ثلاثين ألف نسمة حالياً في منطقة الليلكي وحدها يعيش أكثر من 90 في المئة منهم بلا أسس صحية وإنسانية وبيئية وإجتماعية وأمنية. وحتى الزفت يُفلش فيها على الطرقات العامة في حين تعيش زواريبها الذل الإجتماعي ويشتري ناسها مياه البحر المالحة.
هناك، في الليلكي، يبتسم الناس من الوجع “علّ الإبتسامة تغيّر بعض الواقع في حين يأخذ الحزن منهم كل شيء”. فنسمعهم يعلقون على أحداث الليلكي في 14 شباط على أنها “نيران أطلقت في عيد الحب”. إنها “مناوشات” قديمة – جديدة في تلك المجتمعات لكن ما طرأ عليها حالياً هو استخدام السلاح المتوسط وقاذفات الـ “ب 7” فهل هذا مقبول؟ هل مقبول أن تدخل القوى الأمنية الشرعية وتعود وتخرج وكأن شيئا لم يحصل؟
كل يوم في البقاع ليلكي. وأهل بعلبك شعروا في 14 شباط أن الضاحية في بعلبك. هذا كان ردّ أهالي البقاع. وهو ردٌّ يوجع. لطالما أظهر السيد حسن نصرالله فائض القوة لديه في لبنان وخارجه فكيف يقف مكتوف اليدين عاجزاً في حالات المواجهات بين العشائر؟ سؤالٌ يطرحه أولاد العشائر نفسها. وكثير كثير من اللبنانيين.
عباس صفوان قتل. ومئة عباس صفوان قتلوا من قبل. فهل يستطيع أي كان أن يخبر ناس الليلكي وبريتال والهرمل وبعلبك عن الآتي؟ سؤالٌ جوابه مبهم حتى اللحظة.