كتب عماد مرمل في “الحمهورية”:
الى حين اتّضاح مصير محاولات معالجة الازمة الحكومية، من المبادرة الفرنسية الى أفكار الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله مروراً بمبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري، يستمر الخلاف الحاد بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، وسط الصعود في سعر الدولار والهبوط في قدرة الناس على التحمّل.
يعرف عون انّ المواطنين العاديين سَئموا ممّا يبدو في الظاهر نزاعاً على السلطة والحصص بينه وبين الحريري، لكنه يفترض انّ عليه عدم الخضوع الى هذا الانطباع والتسليم تحت وطأته بشروط الحريري، مُقتنعاً بأنه لا بد لمَن أساؤوا فهمه ان يكتشفوا، ولو بعد حين، أهمية «صموده» في معركة تأليف الحكومة، وان يدركوا انه كان يخوض نزاعاً على الحقوق وليس الحصص.
ويُحاذِر عون أن يقبل تحت الضغط الإقتصادي او الشعبي بتكريس أعراف خطرة تُخالِف، من وجهة نظره، الأصول الدستورية والقواعد الميثاقية «لأنّ ضررها سيستمر طويلاً ولا يمكن حصر تداعياته مستقبلاً».
وتِبعاً لأحد القريبين من رئيس الجمهورية، فإنّ جوهر الإشكالية الراهنة هو انّ عون يرفض ان يكون ألعوبة في يد الحريري المدعو الى أن يهدأ قليلاً و»يروق علينا».
ويكشف زوّار القصر الجمهوري أنّ الحريري أعاد، خلال اجتماعه الاخير مع عون، طَرح التوليفة الحكومية المَشكو منها، فأبلغ اليه رئيس الجمهورية فوراً انها مرفوضة، وعندما استغرب الحريري كيف أنّ عون رَدّ عليه سريعاً وقبل ان يدقّق في التفاصيل، أجابه أنّ الأمر محسوم ولا يحتاج إلى أي نقاش.
تجزم بعبدا بأنّ الحريري لا يتجرّأ حتى الآن على تأليف الحكومة، وأن المشكلة الاساسية تكمن عنده، لكنه يحاول تصديرها الى عون. امّا جوهر هذه المشكلة فيتمثّل، تِبعاً لاستنتاجات القصر، في كَون الرئيس المكلّف وعد «حزب الله» بأن يكون ممثّلاً في الحكومة، غير انه ليس قادراً على تسييل هذا الوعد وتنفيذه تَجنّباً لتفاقم الغضب السعودي عليه.
ولدى القصر الجمهوري اقتناع بأنّ زيارات الحريري الى الخارج ستظل غير مُجدية ما لم تحصل زيارته الأهم، وفق حساباته، الى السعودية التي لم تفتح بعد أبوابها السياسية أمامه «وفي كل الحالات هو مخطئ اذا كان يظن انه يستطيع الاستقواء بالخارج على عون الذي يحرص على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع الفرنسيين ليشرح لهم الحقائق أوّلاً بأول، سواء بواسطة الاتصال المباشر مع ماكرون او من خلال «الأقنية الديبلوماسية» العابِرة للكواليس، كما حصل بعد اللقاء الاخير بين الرئيس الفرنسي والحريري».
وخلافاً لِما رَوّجه الحريري، تشدّد بعبدا على أنّ اللائحة الملونة التي أبرزها خلال إطلالته الأخيرة في 14 شباط، ليست لائحة رئيس الجمهورية بالمعنى المباشر للكلمة، «بل هي مجرد مساهمة منه لتوسيع بيكار الخيارات أمام الرئيس المكلف، علماً انها تضمّ مجموعة كبيرة من الاسماء التي كان قد اقترحها البعض على رئيس الجمهورية. وبالتالي، هو شخصياً لا يعرف غالبيتها بل طرحتها عليه جهات وشخصيات موثوقة، كمدير الأمن العام اللواء عباس ابراهيم وأحد الصروح الجامعية وغيرهما، وفق قاعدة الاختصاص الخالي من الانتماء الحزبي. وحالياً، يوجد في حوزة الرئيس 32 إسماً إضافياً، مع التأكيد انّ هؤلاء كما الآخرين ليسوا مرشّحي الرئيس رسميّاً، إلّا انه يَفترض انهم يمكن ان يكونوا موضع أخذ ورَدّ مع الرئيس المكلف للتوَصّل الى قواسم مشتركة».
والمستغرب بالنسبة إلى بعبدا هو انّ الحريري اختار من لائحة الـ72 اسماً، المتنوّعين بطوائفهم، بضعة أسماء مسيحية فقط، «فهل هكذا يتم التعامل مع رئيس الجمهورية الذي ينبغي أن يكون شريكاً كاملاً في تشكيل الحكومة، وحياكة خيوطها بكلّ مندرجاتها؟».
ويحرص فريق عون على الاشارة الى انّ رفض الحريري محاورة «التيار الوطني الحر»، وخروج «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب طوعاً من المعادلة الحكومية، يفرضان على رئيس الجمهورية، انطلاقاً من الأسباب الميثاقية، حماية الحقوق المُهدّدة للمكوّن المسيحي «إلى جانب تأدية دوره الوطني كمسؤول عن كل البلاد».
وتلاحظ بعبدا انّ الحريري يتعَمّد تحجيم دور عون، ويريده شاهداً على التشكيلة الحكومية وليس مشاركاً في صنعها، خلافاً لمقتضيات الدستور، «واذا كان رئيس الجمهورية يصدر مرسومَي استقالة الحكومة وتسمية الرئيس المكلف في اعتبارهما «مرسومَي إعلان» لتثبيت واقعتين دستوريتين لا تدخّل له فيهما، فإنّ مرسوم التأليف مغاير في قواعده ودلالاته، إذ انه مرسوم إنشائي، أي يُنشِىء الحكومة، مع ما يعنيه ذلك من تثبيت لشراكة رئيس الجمهورية في التأليف، لكنّ الحريري يريد لعون ان يُقارب مرسوم التأليف كما يفعل مع المرسومين الأوّلين، بحيث يكتفي بالإعلان عن الحكومة وفق ما يرفعها اليه الرئيس المكلف».
وفيما يسود القصر الجمهوري شعور بأنّ هناك محاولات للحريري لاستجرار الضغط الخارجي تارةً وللتشاطر الداخلي طوراً، يلفت المطّلعون على موقف عون الى انّ كل ذلك لا يفيد، وانّ الممر الالزامي نحو الحل يكمُن في ان يتناقش الرئيس المكلف مع رئيس الجمهورية في كل اسم، وأن يبحثا معاً في طريقة توزيع الحقائب على الطوائف، بحيث لا تكون هناك أسماء وحقائب معلّبة وموزّعة مسبقاً.
وعون، الساعي الى تَرك بصمة إصلاحية على الجزء الأخير من ولايته الرئاسية، يعتبر انّ حقيبة وزارة المال ضرورية للمُساءَلة ووزارة الداخلية للملاحقة ووزارة العدل للمحاسبة، ولذلك لا يجوز، في رأيه، أن يجري إقصاءه كحَيثيّة رئاسية وايضاً تمثيلية، عن كل هذه المواقع مجتمعة «إذ ماذا يبقى حينها من التوازنات الحيوية، ومن ضمانات الصمود في معركة مواجهة الفساد؟».
وأبعد من حدود الاعتراض على سلوك الحريري، لا تُخفي بعبدا عتبها على بعض الحلفاء «إنطلاقاً من انّ عون يواجِه الدعوة إلى التدويل والحياد في داخل البيت المسيحي، ويواجه كذلك جنوح الحريري ومحاولات التفلّت من التدقيق الجنائي ومكافحة الفساد، بينما «حزب الله» يكتفي بالتفرّج».
ويختصر المحيطون بعون استراتيجيته في هذه المرحلة بالآتي: «هناك فائض قوة عند السنّة رَبطاً بعمقهم الاقليمي والواقع الجيوسياسي، ويوجد فائض قوة عند الشيعة رَبطاً بسلاحهم وتحالفهم مع إيران، أمّا عون فإنّ قوته الاساسية مستمَدّة من توقيعه، وترتكز على التخصيب السياسي لحبر قلمه».
الضفة الأخرى
على الضفة الأخرى من النهر السياسي، يواصل الحريري جولاته الخارجية التي قادَته هذه المرة الي الدوحة، بعدما تعذّر عليه لقاء وزير الخارجية القطري خلال زيارته الأخيرة الى بيروت.
أمّا زيارة السعودية، والتي يعتبرها البعض «العقدة والحل»، فهي ليست بالضرورة مُستبعدة، ويمكن ان تتم في الوقت الملائم، كما تفيد أوساط قريبة من «المستقبل»، ناصِحةً بتفادي الركون الى فرضيات غير واقعية في معرض مقاربة العلاقة بين المملكة والحريري.
وعلى رغم مواقف عون المتصلّبة والردود العنيفة لـ»التيار الحر» على الحريري عقب خطابه المرتفع السقف في 14 شباط، يبدو أنّ الرئيس المكلف لا يزال يتجنّب إحراق جميع مراكب العودة إلى بعبدا، وإن كان يتمسّك بالإبحار وفق بوصلته، وهذا ما يفسّر انه لم يكشف كل أوراقه في كلمته الأخيرة، مُكتفياً بتسريب ما قَل ودَلّ ممّا يعرفه او يملكه.
بهذا المعنى، فإنّ الحريري يتحرك بين حدّين: لا إقفال لخط الرجعة مع عون على رغم التصعيد المتبادل، ولكن أيضاً لا خضوع لشروطه في التأليف.
ولعل ما يعزّز ثبات الحريري عند لاءاته حتى الآن، شعوره بأنّ عون بات شبه وحيد داخلياً وخارجياً، الأمر الذي سيدفعه عاجلاً ام آجلاً الى التراجع وتقديم التنازلات، كما يظنّ المتحمّسون لبيت الوسط.
وقد أتى خطاب الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله قبل يومين ليزيد من اقتناع الحريري بأنّ حتى أقرَب الحلفاء الى عون، وهو الحزب، لم يعد قادراً على مُجاراته وتغطيته في حساباته الحكومية التي تتصل بالثلث المعطّل وتوازنات مجلس الوزراء.
ويُصرّ الحريريون على أنّ مصالح رئيس «التيار الحر» جبران باسيل الراهنة واللاحقة هي التي تستمر في عرقلة التشكيل، وانّ تغليفها بقشرة الحقوق المسيحية لا يغيّر شيئاً في الحقيقة، مشيرين الى انّ المطلوب من عون هو أن يتحرر من هاجس باسيل، «وعندها يمكن أن تُعالج أي عقدة بسهولة».
وهناك في أوساط المواكِبين لمسار الحريري مَن يلفت الى انّ رئيس «المستقبل» تَعلّم من دروس الماضي وتجاربه ما يكفيه للصمود طويلاً في هذا الاختبار الجديد الذي يواجهه، «والذي يتوقّع ان يدفع مجدداً ثمن التسوية مع عون وباسيل مِن كيسِه حصراً، سَيملّ الانتظار».