كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
إذا كان الحب هو الحاكم بأمره في أيام الزواج الهانئة، فالعدالة هي الحَكم حين تنقضي تلك الأيام ويصبح الطلاق واقعاً لا مفر منه. ينتهي الحب وتبقى العدالة ضمانة لمن كانوا أحباء وباتوا خصوماً ومتقاضين، تعلو فوق الخلافات والضغائن وتحفظ للطرفين حقوقهما. لكن ماذا لو تعطلت العدالة وتوقفت عجلتها قسراً؟ هل يكون توقفها سبباً في عودة الحروب الصغيرة بين الأزواج وانهيار ما تبقى من شبكة الأمان أمام العائلات المشلّعة؟ قضايا كثيرة بين المطلقين علّقها واقع إقفال المحاكم لعل أبرزها قضية تأخر تسديد النفقة وتداعياتها.
“جيني”، وهو اسمها الوهمي، سيدة كندية تزوجت مدنياً من رجل لبناني وعاشا حياتهما الزوجية في لبنان لفترة ولكن بعد أن انقطعت صلة المودة بينهما اتفقا على الطلاق وانفصلا بموجب إتفاقية حبية صُدّق عليها من قبل المحكمة. وبعدما استقرت امور الطلاق بينهما لبعض الوقت بدأ الزوج يمتنع عن تنفيذ بنود الاتفاق ويتلكأ في دفع النفقة المتوجبة عليه ويتحايل على القانون، تاركاً الزوجة تتخبط وحيدة وسط أزمة مالية خانقة.
النفقة بالدولار والإنفاق بالليرة
حكم النفقة لجيني وأولادها صدر بالدولار الأميركي حين كان لا يزال سعر صرف الليرة مثبتاً على 1500 ليرة مقابل الدولار، وكان عند صدوره منصفاً بحقها وحق أولادها، 4000 دولار قيمة نفقتها الخاصة، فيما نفقة الولدين 1500$ لأنها تتقاسمها مع طليقها من دون ان يتقاسما الحضانة. كان هذا المبلغ يلبي الى حد ما احتياجات العائلة من مسكن وطبابة ودراسة. لكن الزوج اليوم استغل انخفاض سعر الليرة وبات يقدم شيك النفقة بالليرة اللبنانية على سعر الصرف القديم، لا بل أكثر من ذلك يتباطأ حتى منتصف الشهر لوضع الشيك في دائرة التنفيذ في المحكمة، على الرغم من كونه مقتدراً مادياً وينفق الكثير على حياته الخاصة، فيما الزوجة التي لا تعمل وتتولى الإنفاق على نفسها وبيتها وأولادها تعاني في تأمين كل هذه الاحتياجات في انتظار الحصول على الشيك..
محامية “جيني” التي تقوم بالمستحيل لمساعدتها تكاد لا تصدق ما تعيشه وتقول: “نحاول الاتصال بالموظفين في دائرة التنفيذ في محكمة الجديدة في المتن او بالقاضي او كاتب المحكمة، لكن لا احد يستجيب والكل غائب محجور في بيته ووحدها السيدة تعاني مع أولادها من القلة والشح في الامكانيات المادية”.
تؤكد المحامية ان النفقة دين ممتاز لم يشمله تمديد المهل، وأي امتناع عن تسديدها يعرض صاحبها للحبس. والنفقة من الأمور المستعجلة التي لا بد من البت فيها بسرعة، خصوصاً أن وزيرة العدل كما مجلس القضاء الأعلى اعطيا الاولوية للقضايا المستعجلة التي لا يجب ان يشملها إقفال المحاكم، لكن لا حياة لمن تنادي، فالمحكمة غائبة كلياً تاركة الناس يتخبطون بمشاكلهم.
ربما ظنت السيدة الكندية انها “ظمطت” من ظلم المحاكم الروحية والشرعية الذي قد تكون سمعت به وبمآثره في بلادها الباردة هناك، وظنت ان زواجاً مدنياً يمكن ان يليه طلاق متمدّن قد يحمي حقوقها، لكن يبدو أنه حتى الذين يتزوجون مدنياً لا يسلمون من النظام العدلي المتردد، وفق ما تقول المحامية. فالحكم المدني الذي حصلت عليه موكلتها من محكمة الأحوال الشخصية في المتن لم يحمِها ولم يحمِ حق اولادها. الحجج كثيرة والتبريرات أكثر: “الكورونا”، الحجر، البطء في الإجراءات، كيد المتقاضين… ولكن تؤكد المحامية انها على الرغم من كون القانون يقضي بحبس من يتخلف عن تسديد النفقة، إلا أنها لم تشهد يوماً على بت بطلبات حبس من قبل القضاة حتى ما قبل “كورونا” وإقفال المحاكم.
نسأل المحامي الاستاذ صلاح مطر عن المحاكم التي تبت في قضايا الزواج المدني، فيقول ان المحاكم المدنية هي التي تبت فيه وفقاً للقانون الذي صار ضمنه الزواج ولا شك ان هذه المحاكم تعاني من بطء في الإجراءات، ولكن عند وجود خلاف بين المتقاضين يمكن للقاضي اتخاذ تدابير موقتة او سريعة، اذا ارتأت المحكمة ذلك.
حين تصبح الأحوال الشخصية قضية عامة
قصة أخرى من قصص الصراع بين المطلقين تصبح أكثر إلحاحاً في زمن تعطل المحاكم، إذ تروي “شادية” كيف يتحايل زوجها الأسبق على القانون بحيث يصدر شيك النفقة باسم المستفيد الأول، وهو في هذه الحالة القاضي الشرعي، الذي لا يعود قادراً على تجيير الشيك للزوجة مباشرة بل عليه ان يضعه في حساب المحكمة، ليصار بعدها الى إصدار شيك آخر من حساب المحكمة باسم الزوجة.
ومنذ ثلاثة اشهر حتى اليوم تقول “شادية” لم يوقع القاضي شيكات النفقة ولم ينظم شيكات جديدة لتتمكن من الحصول على نفقتها. وهي محرومة منها منذ ثلاثة اشهر لأن المحكمة الجعفرية متوقفة والقضاة لا يداومون في مكاتبهم ولا يصدرون قرارات.
في زمن توقف المحاكم، تتوالى القصص على لسان سيدات مطلقات مغبونات، من كل الطوائف بلا استثناء. وتقول “كريستيل” التي نالت حكماً من المحكمة المارونية بنفقة تقضي ان يساهم الزوج في دفع اقساط المنزل الذي تسكنه مع ولديها، ان زوجها لم يدفع قسط البيت الى المصرف منذ اشهر، متحججاً بعدم قدرته على الدفع بالدولار وبتعليق المهل تاركاً مصير العائلة في مهب الريح.
وهنا لا بد من التذكير ان القوانين اعطت المحاكم الروحية والشرعية استقلالية، وكل محكمة لديها اصول محاكمات خاصة بها وتحكم وفقاً لنظام الأحوال الشخصية للطائفة التي تتبع لها.
ما هذه النماذج سوى غيض من فيض، فالأزمة الاقتصادية ألقت بثقلها الضاغط على أكتاف العائلات، وتوقّف المحاكم عَقَّدَ الأمور المعقدة اصلاً بين الأزواج.
الخروج من الدولرة هو الحل
صحيح ان القضايا المستعجلة لا يشملها تمديد المهل، يؤكد بروفسور طرابلسي، ولكن على أرض الواقع ومع تعذر الحضور على القضاة، هم واقعون في حيرة كيف يجب ان يحكموا في ظل تدهور سعر صرف الليرة، واستمرارية السعر الذي تعتمده دائرة التنفيذ على 1500 ليرة للدولار. المعضلة اليوم هي إما بوجوب رفع قيمة النفقة أو تحديدها بالعملة اللبنانية لتكون اقله على سعر المنصة؛ وهذا يعني أن المحاكم يجب ان تعيد النظر بما يعرف بعملية تعديل نفقة وهنا ستنشأ آلاف الدعاوى. وبعض المحامين قد بدأوا السعي لتعديل النفقة لكن من جهتي انا ادعو الى التوافق بين الطرفين، لأن النفقة موجب معنوي قبل ان تكون موجباً قانونياً، فأنا اليوم كزوج لا أترك عائلتي جائعة ومحتاجة منتظراً قرار المحكمة. ويبقى الخيار الأفضل الخروج من الدولرة وإصدار الأحكام بالليرة، علماً ان المحاكم الروحية اعتمدت الحكم بالدولار او ما يعادله عند التسديد بالليرة اللبنانية منذ العام 1990.
نسأل بروفسور طرابلسي إذا كانت النيابات العامة تنفذ قرارات الحبس حالياً او الحجز على الممتلكات بالنسبة لمن يمتنع عن تسديد النفقة وفق المادة 997 من أصول المحاكمات المدنية، فيجيبنا بالنفي قائلاً: “ان من يمتنع عن التسديد حالياً لا يسجن لأن النيابات العامة على دراية بالوضع الاقتصادي الذي يرزح تحته الناس والأزواج. أشك بان يقوم شرطي بجلب زوج صدر بحقه حكم بالحبس لأنه ليس قادراً على الدفع.. لكن ما يجب التأكيد عليه أن النفقة دين ممتاز في القانون ويحبس حبساً إكراهياً المحكوم بها إذا تخلف عن الدفع، وهذا الحبس هو إكراه معنوي لحمله على الدفع لكنه لا يعفى من تسديد المستحق. حالياً يجب التأقلم مع الوضع القائم وتفهمه.
الطرفان مظلومان
كيف يمكن لمن لا يقبض راتبه او نصفه تسديد النفقة المتوجبة عليه؟ يقول: “للاسف اليوم الاثنان مظلومان، المحكوم والمحكوم له. المادة 143 من قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية تقرّر أنه يقتضي الحكم بالنفقة استناداً إلى قدرة من تحكم عليه وحاجة من تحكم له، وفي ظل هذه الظروف هي مصيبة على العائلة وكارثة، إذ الحاجة كبيرة والقدرة ضئيلة”. يتابع: “المستفيد بدو ياكل والمحكوم عليه ما معه ما العمل؟ ومن سيحل محل الرجل المديون بنفقة؟ اكيد لن تكون الدولة من يتحمل هذا العبء”.
وكباحث في القضايا العائلية يؤكد بروفسور طرابلسي أن أزمة الليرة سيكون تأثيرها شديداً على العائلات، وكما هجّرت الحرب الأهلية العائلات فإن المستوى المادي اليوم سوف يشتتها.
نحاول ان نغوص أكثر في تفاصيل المشاكل القانونية التي رصدناها عند بعض السيدات وما يعانينه من صعوبات في الحصول على النفقة الموجبة لهن. ونسأل بروفسور طرابلسي كيف يتم تسديد النفقة عملياً؟ فيجيب: “الحكم الصادر بالنفقة ينفذ في دائرة التنفيذ بمعنى ان الزوج يضع الشيك او المبلغ النقدي في دائرة التنفيذ، ويتلقى إيصالاً من الزوجة أو يمكنه ان يعطيها المبلغ مباشرة وتعطيه إيصالاً في المقابل، والشيك بحد ذاته اداء إيفاء. ولكن ماذا لو عمد الزوج الى التحايل؟ انصح الأزواج بتلافي النكايات، يقول، واعتماد الحلول الحبية وتسوية الأمور في ما بينهم في انتظار عودة انتظام العمل في المحاكم المدنية او الروحية، فالنصوص رائعة لكن التنفيذ معطل لأن “الفريقين مضروبان” المحكوم عليه والمستفيد، ودائرة التنفيذ من جهتها شبه متوقفة عن العمل. لكن مهما تأخر المحكوم عليه في التسديد فإن المبلغ سوف يتراكم عليه وسوف يتم استيفاؤه في النهاية كونه ديناً ممتازاً”.
وهل بإمكان الزوج تعديل النفقة وتخفيضها نظراً للاوضاع؟ والجواب: “في الحالات العادية يجب على الرجل ان يكون قد اجاد الدفاع عن نفسه قبل صدور الحكم لأن قاضي التنفيذ ينفذ الحكم وفقاً لمضمونه، اذا لم يكن باستطاعته الدفع لزوجته أو أولاده، فلدى دائرة التنفيذ طريقتان في التنفيذ إما الحجز على الأملاك او طلب الحبس وبرأيي الحبس لا يفيد. ومنذ البداية لا بد من التوافق بين الطرفين ومراعاة حالتهما، وأكرر النفقة موجب معنوي على الزوج تأمينها مما يختزنه. قد تفتح المحاكم غداً ولكن الأزمة الاقتصادية مستمرة وآلاف الأزواج لن يكون بإمكانهم الدفع لذا لا بد ان تتعدل النصوص والاجراءات بحكم الأمر الواقع”.
في الختام قد يكون الحل ان تدرس المحاكم كل حال على حدة للبت في إمكان تعديل النفقة إما تخفيضاً او زيادة، لكنه امر يتطلب وقتاً وجهداً في ظل ارتفاع عدد دعاوى الطلاق التي تصل في المحكمة المارونية وحدها مثلاً الى 500 او 600 دعوى في العام الواحد.
البروفسور طرابلسي: العائلة هي الضحية
وفي انتظار عودة المحاكم الى العمل والبت في الخلافات وإصدار الأحكام حملنا بعض تساؤلاتنا الى المحامي البروفسور ابراهيم طرابلسي، الاستاذ المحاضر في كلية الحقوق – جامعة القديس يوسف وكلية القانون الكنسي – جامعة الحكمة – بيروت في مادة الأحوال الشخصية، لنطلع منه على الموجبات القانونية لقضايا النفقة.
منذ سنة تقريباً، يقول بروفسور طرابلسي، وفي المرحلة الأولى من الحجر الذي رافق وصول جائحة كورونا، أعطت القرارات الصادرة عن وزارة العدل كما المحاكم المدنية الأولوية والأفضلية للأمور المستعجلة ومن ضمنها حكم النفقة لصالح الزوجة والأولاد، منع السفر، مشاهدة واصطحاب الأولاد والعنف الأسري سواء في المحاكم المدنية أو الروحية، ومع ازدياد وطأة وباء كورونا بات هناك تعذر لحضور معظم القضاة بالرغم من التعليمات بضرورة البت في القضايا المستعجلة في أقرب مدة ممكنة، ولم يصدر الكثير من الأحكام والقرارات في هذه الفترة بسبب عدم حضور القضاة الى مكاتبهم من جهة، وحصول تأخير من قبل المتقاضين والمحامين في تقديم اللوائح بسبب تعليق المهل، علماً أن كل القرارات، لا سيما من الناحية المدنية، اعتبرت ان التعليق لا يشمل النفقة والوصاية والتدابير المستعجلة. ويقول بروفسور طرابلسي أن المشكلة الكبرى حالياً في ما يتعلق بالنفقة تكمن في ان من كان محكوماً سنة 2018 مثلاً بدفع مبلغ 1000$ نفقة لمستحقيها، بات اليوم يسدد النفقة على سعر 1500 ليرة للدولار اي ما يعادل 1,500,000ليرة فيما قيمتها لم تعد توازي 160$. ما يضطر المدعي أو المحامي الوكيل الى ان يقصد المحكمة لطلب تعديل النفقة والحكم بالليرة اللبنانية. لكن حتى الآن كمحامٍ وكراصد لما يصدر من أحكام لم أجد اي حكم بعد لمحكمة في هذا الشأن، ولا أعرف كيف سيكون التوجه العام في هذه القضايا. في المحكمة المارونية حصلت محاولة من خلال حضور الزوجين وفي سعي الى حل الأمور حبياً بينهما ورفع قيمة النفقة. لكن للأسف العدالة شبه معطلة منذ آذار الماضي (رغم بعض محاولات الاستجوابات أونلاين من قبل المحكمة المارونية)، والعائلة هي الضحية.