Site icon IMLebanon

غسان الرحباني: حفرة 4 آب في قلب كلّ لبناني

كتبت مايا الخوري في “نداء الوطن”:

غياب السند موجع بالنسبة إلى عائلة الكبير إلياس الرحباني، ورغم أن الألم يبدأ كبيراً ويصغر، لا يزال يحفر في داخل نجله الفنان غسان الرحباني الذي يرى والده في أبسط تفاصيل يومياته. ألم الفراق على الوالد قد يضاهي ألم الرحباني الإبن على وطن إتفقوا على تركيعه وينتظر كبسة زر دولية للنهوض مجدداً بعد تنفيذ مخططات معيّنة. بجرأته المعهودة تحدث الفنان غسان الرحباني إلى نداء الوطن، عن الوالد والوطن والفن.

يعيش الفنان غسان الرحباني حزناً عميقاً إثر غياب والده، فأي اختبار في الحياة برأيه ممكن أن نتعلم كيفية التأقلم معه إلا فقدان الآباء. اذ يرى أن “غياب الأب موجع جداً عامّة، بغض النظر عما إذا كان معروفاً في المجتمع أم لا، لأن الآباء أغلى الناس على قلوب أبنائهم، إنطلاقاً من العلاقة الغرائزية التي تربطهم”. ويتحدث عن وجعه الذي يزيد يومياً لأنه يرى والده في الإعلام و”السوشيل ميديا” وفي الإستديو ومن خلال الموسيقى. ويقول:” لو كان والدي رجل أعمال مثلاً، لاعتدت ربما أسرع على غيابه، إنطلاقاً من مقولة أن كلّ شيء يبدأ كبيراً ويتقلّص. أمّا بالنسبة إلى عائلتنا، بدأ الوجع كبيراً ولا يزال، لأننا نتلقى يومياً رسائل عن أطروحات ومنحوتات ودراسات ورسومات عنه”.

يحظى الأستاذ الكبير إلياس الرحباني بإجماع مطلق على شخصه الخلوق بغض النظر عن الرأي بفنّه، وقد لفت العائلة الإجماع الإيجابي على تواضعه وإنسانيته ومحبّته للغير. فيروي غسان كيف كان ينتقده أحياناً بسبب تفانيه من أجل أناس لا يستأهلون محبّته الزائدة، لكنه تعلّم الآن، أن ما زرعه والده كإنسان محبّ للحياة قبل الفنّ، محقّ، “ما دفعني إلى إعادة النظر بشخصيتي”. مضيفاً: “كان قريباً جداً من رسالة المسيح الداعية إلى محبة الآخرين، ورغم أنني مسيحي مؤمن وملتزم جداً بتعاليم الإنجيل، إقتنعت بأنه سبقني بأشواط. أعيش مع يسوع المسيح في لحظات النجاح والخسارة، وهو لا يغيب أبداً عن حياتي لذا أشكره دائماً على كل نعمة وشدّة”.

وعمّا إذا كان هناك مشروع تكريمي لمسيرة والده خصوصاً أن غيابه جاء مفاجئاً، يقول: “لم أستوعب حتّى هذه اللحظة غيابه عنّي. ما زلت تحت تأثير الصدمة. لست ممن يركب موجة إستغلال شهدائه، أنا إنسان يمرّ حالياً بفترة حزن أصيل وعميق”.

وهل زادت المسؤولية تجاه الأكاديمية التي تحمل اسمه؟. يعلّق: “حين أسستها منذ 6 سنوات، قررت أن تعبّر عن مبادئ العائلة وقيمها وتاريخها. صحيح أن والدي لم يكن حاضراً دائماً هناك إلا أنه سندي الكبير ولو معنوياً، وقد خسرته اليوم”.

ويضيف: “من يقصد المعهد، يدرك سلفاً ما ينتظره لدينا من مستوى معيّن يليق بالرحابنة، لذا أقدّم ما يتوقّعه من إحترافية وتاريخ وأصالة ومنهاج بدءاً من الإستقبال والتعامل وصولاً إلى مستوى الحرفية والجديّــة في التعليم”.

أغنياته منذ عام 1990 تعبّر عن واقع نعيشه اليوم، ولم يتغيّر شيء، فما رأيه؟ يردّ بابتسامةٍ صفراء: “للأسف لم أتوقّع إستمرارها أكثر من عامين أو ثلاث. ظننت بأن الحكّام الوقحين سيبادرون إلى التغيير، لم أعرف أنهم وقحون إلى درجة إستغلال أعمالي لتنفيس غضب الشعب، فيتظاهرون باحترام حرية الرأي، ليستمروا في تنفيذ مخططاتهم. برأيي لا بدّ من أن ينكسروا لأن الله يمهل ولا يهمل”.

وهل يخفّ غضبه بعد الكتابة؟ يقول بسرعة: “يتغيّر غضبي وفق الأحداث، قبل عام 2019 لم أشعر بأن موضوع المصارف سيشكّل مشكلة، فصبّ غضبي حينها على الكذب والسرقة والتشاطر على الشعب. بعدما انطلقت أزمة المصارف، وأزالوا العمود الوحيد الذي يُبقي البلد واقفاً، صُدمت وعدت خطوة إلى الوراء من أجل التفكير من دون السير وراء غريزة الغضب”.

ويضيف: “لقد ابتكروا أمراً طارئاً جديداً لا يريدون أن يعتاد الشعب عليه، فيقع لبنان في بؤرة وحول الحرب الغرائزية. إعتاد الشعب اللبناني الحروب والكوارث والمخططات الدولية التي فرّقت شعوباً أخرى، لذا كان من الصعب وقوعه مجدداً في تلك الأفخاخ، خصوصاً أنه أصبح أكثر وعياً”. وإنطلاقاً من ذلك، يرى بأن ثمة سعياً لتركيع اللبناني بهدف تنفيذ مطالب معيّنة. ومتى نُفّذت سيستقرّ الوضع بكبسة زرّ، لتبدأ عملية الصعود من الهاوية تدريجاً وعلى مدى عامين أو ثلاثة.

ولا يُخفي الرحباني إنزعاجه من تسخيف ملف جريمة 4 آب وحصره بالإهمال، واصفاً المناكفات السياسية ورمي الإتهامات بين فريق وآخر بالمعيب. كما من المعيب برأيه تسخيف هذه القضية الكبيرة وضحايا الإنفجار. ويصرّ على تسمية “ضحايا” وليس “شهداء”، لأن أحداً منهم لم يطلب الشهادة. ويضيف: “فشر” المسؤولون لو اعتبروا أنهم يكفّرون عن ذنوبهم إذا سموا ضحايا إجرامهم بالشهداء”.

برأي الرحباني، لو لم يتوافر النيترات في المرفأ لاستخدموا وسيلة أخرى لإنهيار لبنان وتركيعه ومرغ أنف اللبناني في الوحل. فيقول: “صحيح هناك إهمال ولكن لو لم يرغبوا في استغلال النيترات لما إنفجر. لكانوا بحثوا عن نقاط ضعف أخرى مثل سلاح “حزب الله” وإسرائيل ووسائل كثيرة”. من هنا يصف الواقع الحالي بالدومينو، “بضربة واحدة سقطت الأعمدة كلها في البلد، إقتصادياً وصحياً وأمنياً. ومتى نفّذ لبنان اللعبة الدولية، سيعيدون رفع الأحجار تدريجاً”.

من جهة أخرى يرى الرحباني أن إنفجار 4 آب يهدف إلى استبدال مرفأ بيروت بمرفأ حيفا، ولبنان بإسرائيل بعدما تراجعت لدينا التجارة والطب والإستثمار والتعليم. “قضوا على كل ما نفخر به عالمياً وانتهى دورنا كهمزة وصل بين الشرق والغرب. وبالإتفاق بين إسرائيل والدول العربية وُضع لبنان جانباً لتصبح قضيتنا طيّ النسيان. وهذا الإهتمام العربي الخليجي بلبنان إنتهى ولن نعتبر وجهة سياحية. ورغم كل ذلك لا يزال اللبنانيون منشغلين بالمناكفات السياسية”.

ورداً على سؤال حول موقف الثوار تجاه رأيه بالثورة، يأسف لوضعه في قالب فئة سياسية لأنه فعلياً لا يكترث لأي فريق خصوصاً أن أحداً منهم لم يبلغ صفاء تطلعاته الوطنية، واصفاً الثورة بالأصيلة لأن من شارك فيها أهدافه سامية ومحقّة، إنما تم استغلالها لأهداف خارجية من أصحاب المخططات. والدليل “عندما انطلقت الثورة كان الدولار لا يزال 1500 ليرة، ورغم أنه سجّل حالياً 9000 ليرة، لم ينتفض أحد. فإذا أردنا التفكير منطقياً ونسعى فعلاً إلى التغيير، يجب ألا يبقى لبناني في منزله. لذا ما حصل يثبت أن الثورة لن تحقق التغيير من دون كبسـة زر خارجية”.

ويضيف: “لسوء الحظ يجب الإقتناع بأنه ممنوع على أي لبناني التحرك وفق غريزته لأن كل شيء مبرمج من الخارج، حتى تصريح السياسيين يكون ضمن الحدود المرسومة لهم. لذا أرى أن المناكفات التي تحصل بين فريقي 8 و14 آذار معيبة كونهما محكومان بالقرار الخارجي. فليسكتوا إذاً جميعاً ويتوقفوا عن الضحك على الناس”.

ورداً على سؤال حول إنعكاس الواقع الحالي على نتاجه الفنّي، يجاوب: “لا يمكنني فصل الفنّ عن حياتي اليومية”، مستغرباً عرض أغانٍ جديدة تحت شعار “تخطي المصاعب” معتبراً ذلك مناقضاً للحقيقة والواقع. ويضيف “في حين وصل الدولار إلى 10000 ليرة هناك من يرقص ويغني ويحتفل فيما لا يزال اللبناني كمن يسقط من أعلى مبنى، معلقاً في الهواء، ولم يصطدم بالأرض بعد. صحيح أن اللبناني يتأقلم مع الواقع، ولكن أي واقع؟ من أزمة المصارف مروراً بإنفجار بيروت وجائحة كورونا، لا يدري أساساً في أي مستنقع يغطس ليخرج منه. لذا لا أفهم سبب استعجال الفنانين لإظهار أن هذه المشاكل أصبحت من الماضي، فنتخطاها ونستعيد الحياة. برأيي إنها مصلحة شخصية لفنان يتناسى الواقع تمهيداً لإحياء الحفلات. فإذا كان قصده الترفيه عن الجمهور في ظروف مماثلة، فليأخذ بالإعتبار الألم الذي يعيشه هذا الجمهور فيخفف من مشاهد الإبهار والجمال والفخامة والمبالغة”.

ويضيف: “هدف جريمة 4 آب كسر كرامة اللبناني وعزّة نفسه بعدما صمد منذ عام 1975، فيريدون مرغ رأسه في الوحل للحصول على مطالبهم. إن الحفرة التي أحدثها إنفجار 4 آب موجودة في قلب كل لبناني لذلك لا يمكن تقديم أغنية ترفيهية على التلفزيون وهناك حفرة كبيرة في قلوب اللبنانيين. هناك أقلية تريد عودة حياة الليل والسهر ولكن أكثرية ساحقة تعيش حفرة بيروت في قلبها. أدعو الفنانين إلى مساعدة الاكثرية هذه على الخروج من الألم المذكور تدريجاً وعدم دفعها إلى تخطيه دفعة واحدة”.

وعن جائحة كورونا التي قلبت مقاييس الحياة، يقول: “قبلها عاش كثيرون حياتهم من دون رقيب أو حدود لفسادهم في السرقة وتجارة المخدرات والنساء والسلاح، فجاء هذا الفيروس المقصود ليهزّ كيان الإنسان القاسي والمجرم والخبيث، وكما ورد في أغنيتي “لوك داون” “الغني والفقير بلحظة بطير”. حقق الوباء عدالةً إجتماعية في الكرة الأرضية كلها، حتى أنّ مجرمين أعادوا النظر في سلوكهم مع أنني اعتقد أنّ كل إنسان سيعود إلى أصله، والفاسد إلى سلوكه السابق ما إن تمرّ لحظة الشدّة”.

ورغم هذا الواقع السوداوي، لا يزال الرحباني يأمل خيراً معتبراً أنّ “هناك أعجوبة ستأتي حتماً وكما دائماً لإنقاذنا. وهذه الأعجوبة يتّكل عليها الأوادم والزعران معاً”.