كتبت ناريمان شلالا في “الجمهورية”:
يُعتبر لبنان من أكثر دول العالم العربي حرّية، إلّا أنه شهد خلال السنوات القليلة الماضية تزايداً مقلقاً في الهجمات على حرية الرأي والتعبير السلميين. وفي خطوة ملفتة قامت بها لجنة الإعلام والإتصالات منذ أيّام، دُعي رؤساء وسائل الإعلام اللبنانية إلى اجتماع هو الثاني لهم في خلال سنة. وأجمَع المدعوون بعد حضورهم الاجتماع على أنّ الهدف منه هو تقييد المحتوى الإعلامي، بعد سلسلة الإتّهامات المباشرة لـ»حزب الله» بتورّطه في الأحداث المؤسفة التي شهدتها البلاد، منذ انفجار المرفأ وصولاً إلى جريمة اغتيال الباحث والناشط السياسي لقمان سليم. فأين لبنان اليوم من صَون الحريات بعد أن أبحر العرب في الفضاء الواسع إلى المرّيخ؟
تأسَف باحثة لبنان في هيومن رايتس ووتش آية مجذوب، لتسلّح الشخصيات السياسية والدينية الفاعلة في لبنان بالقوانين الجزائية التي تجرّم القدح والذم والتحقير، من أجل إسكات الأصوات المعارضة لهم. وتشير إلى أنّ الإدانة بموجب هذه القوانين قد تؤدّي إلى السجن لمدّة ثلاث سنوات. كما قد تمّ استدعاء المئات من النشطاء والصحافيين وغيرهم ممّن لديهم آراء انتقاديّة للاستجواب، والمضايقة، والإذلال، وفي بعض الحالات لقد تعرّض هؤلاء للعنف الجسدي. ويُضاف إلى ذلك تعرّض المتظاهرين والصحافيين والنشطاء للعنف على يد جهات فاعلة غير حكومية، وسط ثقافة الإفلات من العقاب. وتعتبر مجذوب «أنّ ثقافة الإفلات من العقاب وطَمس الأصوات المعارضة هي التي هَيّأت الأجواء لقتل الناشط والباحث لقمان سليم».
عن القوّة المفرطة، وأحياناً المميتة، التي استخدمتها قوى الأمن ضد المتظاهرين الذين كانوا يطالبون بظروف معيشية أفضل؛ تفيد الباحثة اللبنانية بأنّه لم تتم محاسبة معظم مسؤولي الأمن، على رغم الأدلّة التي جمعتها منظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات الحقوقية، ولهذا الأمر دلالات غير مطمئنة.
تزامنت هذه الهجمات على حرية التعبير والتظاهر مع تدهور الوضع الاقتصادي وفشل السلطات اللبنانية في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي يواجهها البلد. وأدّى هذا الواقع الصعب، الذي ضاعَف نسبة الفقر، والذي تفاقَم بسبب جائحة كورونا، إلى قَضم حقوق الشعب على كافة المستويات.
يعود الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية روني خليل إلى بدايات تأطّر الكيان اللبناني خلال القرن 19، حيث يمكننا أن ندرك مدى تمرّس اللبنانيين وانخراطهم في السياسة عبر التاريخ، خلافاً لمحيطهم. فهل يمكن قمعهم وإسكاتهم اليوم بعد أن ذاع صيتهم في الإقليم العربي، وحتّى العالمي، كنهضويين رياديين؟
يروي خليل أنّ لبنان، أو جبل لبنان، كان الوحيد الذي يتمتّع بالفرادة والخصوصية. وقد شكّل اللبنانيون مع مطلع القرن 20 نواة الفكر التحرّري والديموقراطي، إذ انخرطوا في جمعيات سرّية وعلنية، مطالبين بالتحرّر من السلطنة العثمانية، وطالبوا لاحقاً بالتحرّر من الإنتداب الفرنسي، متمسّكين بالهوية اللبنانية وكيانها. ويتوقّف خليل عند ظهور أوّل إعلان للجمهورية اللبنانية، بنتيجة ثورة الفلاحين في كسروان سنة 1858، والتي كانت خطوة جريئة في سبيل تحدّي النظام الإقطاعي الذي كان سائداً.
وبالتالي، فقد دخل لبنان القرن 20 بقوانين عصريّة؛ نذكر منها حرية المرأة في العمل السياسي، واعتماد النظام الديموقراطي في شتّى المجالات، وتحرّر المجتمع وانفتاحه، وتقبّل مختلف التوجّهات الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها. كذلك لعب دوراً مهماً وكان من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة في أواسط القرن الماضي.
وكذلك تفوّق لبنان في السياسة كما في الاقتصاد، فقد نافس المراتب العشر الأولى على صعيد إحتياطي الذهب، في العقود الماضية. ونظراً للسرية المصرفية التي تمتّع بها، بات خزاناً مصرفيّاً لعدد من متموّلي المنطقة، واستحوذ على أهم المصارف العالمية. وما هي إلّا سنوات قليلة من سوء الإدارة والفساد حتّى بدأ التراجع يدبّ في صفوفنا، وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم من انحطاط وتقهقر، نتيجة تراكمات عدة؛ إن في البُنى الأخلاقية، وإن في البُنى التحتية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحدّث ولا حرج…
فبعد أن كان لبنان مَنارة الخليج وسويسرا الشرق، هو اليوم يلامس القعر. وفي ظلّ غياب أي مؤشرات تخوّلنا معرفة كم من الوقت سيحتاج البلد ليستعيد عافيته أوّلاً وهيبته ثانياً، أطلقت الإمارات العربية مسبار أملها بالوصول إلى المرّيخ.
في الفترة التي تألق فيها لبنان، أي في القرن 19، لم تكن الإمارات كما نعرفها اليوم على الخريطة السياسية والاقتصادية. بل كانت عبارة عن إقليم يضمّ عشائر تجمعهم روابط معينة، يعيشون متنقّلين من واحة إلى أخرى. لم تدخل الحضارة بمفهومنا إلى مجتمعهم، إلّا بعد الثورة النفطية أواسط القرن 20، ولم يدخلوا في مفهوم الكيان السياسي، إلّا في هذه الفترة أيضاً.
وما هي سوى عقود لم تتعدَّ أصابع اليد الواحدة، حتى استحدثت دولة الإمارات العربية المتحدة أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، حيث رسّخت نهجاً وطنياً قائماً على حبّ الوطن. للإماراتيين اليوم؛ مؤسسات عصرية في شتّى المجالات، وقد تنافست الدول الغربية للحصول على موطئ قدم عندهم، وباتوا من المؤثّرين في سياسة الشرق الاوسط حين تستدعي الحاجة. إستحوذت الإمارات على بُنى تحتية ضخمة، محوّلةً الصحارى إلى واحات من الطبيعة الخلابة الإصطناعية، وإلى ناطحات سحاب حيث اتّخذت المؤسسات الاقتصادية العملاقة مقرّاً لها. وحقّقت الإمارات رقي إنسان وفكر وثقافة وعلم. والأهم من كلّ ذلك، اعتمدت الإدارة الحازمة في تسيير شؤون البلاد، وحاربت كلّ فاسد ومُرتشٍ، وأخيراً هي اليوم خامس دولة تطأ المرّيخ.
نشأت بلاد وتطوّرت أوطان، في حين مشى لبنان القَهقرى، وافتقد لقياديين يبدّون مصلحة بلادهم على أي مصلحة أخرى. فمن التألّق والتميّز والريادة، إلى الـ ما دون.
إضطرّت نسبة كبيرة من المثقفين اللبنانيين الى الهجرة، من أجل كسب لقمة عيش تناسب شهاداتهم وتخصّصهم. وعاشت المؤسسات التربوية الراقية، والمؤسسات الإستشفائية وسواها على أطلال أمجادها، وراحت تتخبّط وتناضل في جوّ أمني – سياسي غير مستقرّ. أمّا الأسوأ من كلّ هذا، فهي طريقة كمّ الأفواه التي تطالب بحقوقها المكتسبة، ومحاولة شدّ الخناق على كلّ من يريد المساءلة والمحاسبة. فهل سيجد السياسيون أنفسهم في ورطة لا مخرج منها إلّا بكَتم صوت الضمير؟ وهل يسعون الى تغيير تركيبة مجتمعنا الانفتاحي الحرّ؟