كتبت نهلا ناصر الدين في “أساس ميديا”:
هادئ هو المكان، مزدحم بالبناء، ومكشوف من معظم جوانبه على مشاريع سكنية مأهولة.
قد تتوه عن وِجهتك المقصودة مرات عدة، فتسأل أحدهم عن “منزل جوزف بجاني”، وإذا بالحيّ مليء بالأسماء المماثلة، وفق أحد المارة، فتضطر حينها إلى القول: “جو المقتول”…
نصل إلى المنزل عن طريق أدراجٍ تشبه أدراج الأشرفية، لاختصار “الطلعات والنزلات” الكثيرة في المنطقة… كلّ شيء هنا يوحي أنّه مسرح غير صالح لارتكاب عراكٍ لفظي عالي النبرة، فكيف بجريمة قتلٍ حصلت في وضَح النهار.
جريمة تؤكد أن الجاني، خطط، وتدرّب، وراقب، وحفظ درسه جيدأً قبل تنفيذ جريمته، فالمنزل باعتراف أصحابه يحتاج إلى (مية صلاة وصوم لندلّ عليه الناس) وذلك لصعوبة الطريق وتعدّد شوارعها المأهولة وتداخلها. فبطلا الجريمة بملابسهما وأحذيتهما الرياضية “المرتّبة” يوحيان بأنهما رياضيَيْن محترفَيْن، ربّما تقصّدا تمويهاً ما. ولعلّ من شاهدهما متخفيّان خلف قناع كورونا يوم الجريمة ظنّ أنهما يمارسان الرياضة الصباحية في شوارع الكحالة، ولا شكّ أنهما تدرّبا جيداً على المكان وحفظا طبيعته الجغرافية باحترافية، ونزلا مرّات ومرات من ناحية “الجلّ” الوعرة، وجهتهما للفرار بعد تنفيذ الجريمة، والتي تحتّم عليهما المرور بما يشبه الوادي قبل الوصول إلى طريق صالح للسيارات، الأمر الذي يحتاج وقتاً، على الأغلب أنه كان كافياً لإلقاء القبض عليهما.
شهران على حادثة قتل الشاب المصوّر جو بجاني أمام منزله في الكحّالة، وحتّى الآن لا معلومات رسمية حول التحقيق، وربّما لا تحقيق. وحدها ابنته تالا (سنة و8 أشهر) تتحقّق صباح كل يوم من صورته، فتقول له: “papi” وتقبّله ببراءة، من دون أن تعرف أنّ والدها غادر حياتها إلى غير رجعة، لأنّ عدسته تخطّت الخطوط الحمر. أما آية (3 سنوات) فتعرف جيدًا أنّ والدها في السماء، وتتذكّر أيضًا مشهد غرقه بدمائه، بينما كان ينتظرهما في السيارة ليقلّهما إلى المدرسة صباح 21 كانون الأوّل من العام 2020.
بارد هو البيت، لا يشبه تلك الصور العائلية الجميلة التي ثابر جو على نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة به. البيت خالٍ من ضحكات الفرح التي نطقت جمالاً عائلياً وهدوءاً أُسَرياً ومحبّةً جامحة سرقوها جميعها قبل أوانها. فمن يشاهد فرحة هذه العائلة ما قبل الجريمة يدرك حجم الخسارة الكبيرة التي تعيشها زوجة جو وبناته اليوم بغيابه.
تتخبّط نايلة، زوجة “جو”، بمسؤولياتها، مع طفلتين تعيشان والدهما بيومياتهما بعد مقتله. وتتخبّط بأفكارها التي لا تجد إجابةً عنها، سوى محاولات تبوء بالفشل الدائم عندما تطرق هي أو المحامي باب شعبة المعلومات، للسؤال عن مسار التحقيق “السرّي”، كما تصفه القوى الأمنية، وتمنع تسريب أيّ معلومة عنه حتّى لعائلته وموكّله القانوني.
توجع هذه السرّية نايلة، وتزيد من ظنونها. “لا يستطيعون إلقاء القبض عليه، أو لا يريدون…” على حدّ تعبيرها في حديثها الخاص لموقع “أساس”. وكل ما تعرفه حتى اليوم أنّ الملف لم يصل إلى القضاء بعد، وكل من تم التحقيق معهم في القضية، هي (زوجته)، وشقيقته، وصديقه الذي رافقه إلى الجنوب قبل الحادثة بأيام، صديقه في شركة ألفا، وصديقه في التصوير، كما تم استجواب شخصين من المنطقة كشهود عيان.
ترفض فرضية “المشكلة الشخصية”، زوجتُهُ المتّشحة بالسواد، القويّة، التي تفيض عيناها بالدموع ولا تمطران. لأنّ ابنتَيْها تخافان بكاءها. فجو كان “من عمله إلى منزله، كانت الأولوية لعائلته، ولا أعداء له، ولم يتكلم يومًا عن الموت، وهو لا يواجه من يؤذيه حتّى، بل كان يكتفي بالتزام الصمت ويغيّر أسلوبه مع من يزعجه”.
وتؤكد أنّ “صُوَرَهُ قتلته”. فلدى جو أرشيف عمره 15 سنة، ولديه صور لمرفأ بيروت منذ العام 2017، وقد نشر بعد انفجار 4 آب صورة للهبة التي قدمتها السفارة الأميركية إلى الجيش اللبناني، ظهر فيها العنبر رقم 12. ولديه صور أخرى للعنبر نفسه “فرجاني عليهن”، لكنها لا تعلم إن كانت هذه الصورة هي التي كانت سبب التحليلات”، علمًا أنّ أحدًا لم يسأل جو عن الصور من آب حتى كانون، شهر الحادثة”. وتضع في خانة الشك أيضًا الصور التي التقطها للحدود الجنوبية في زيارته بين 4 و19 كانون الأوّل، أي قبل أيام من قتله.
حتّى في قتله أمام منزله، ترى نايلة “عملًا مقصودًا، فلو قتلوا جو بعيدًا عن المنزل، لما كنتُ سمحت لأحد أن يدعس المنزل، إلا بالتنسيق معي أو مع المحامي، أو يفتّشه بهذه الطريقة”. فأيّ طريقة تتحدث عنها الزوجة المفجوعة بزوجها، وبمن هم مسؤولون عن أمنها وأمن عائلتها؟
تجيب نايلة: “المنزل كان ساحة الجريمة، وقبل أن أدفن زوجي، وبقرار من النيابة العامة صدر في تمام الساعة التاسعة مساءً، بينما كنت أتقبّل التعازي، سحبت شعبة المعلومات كلّ أرشيف جو، وأخذوا كل الأجهزة الإلكترونية الخاصة به، وفتشوا المنزل زاوية زاوية، حتّى أنهم أفرغوا المخدات”. بطريقة تشبّهها نايلة وكأنهم يبحثون عن شيء ما ليُخرجوه ويقولوا لها هذا سبب قتل جو: “تعاملوا معنا كأننا جناة ولسنا ضحية”. وتسأل: “لماذا لم تشهد المنطقة حواجز طارئة لإلقاء القبض على الجناة؟ قبل القبض على الأرشيف؟ ولماذا لم تحصل أيّ حالة تأهب أمنية؟، علمًا أننا على كتِف منطقة أمنية في الجمهور”.
وتذكر نايلة جيدًا فرضية العنصر الأمني الذي التقاها لأخذ إفادتها حين عودتها من المستشفى، بينما كانت ملطّخة بدماء زوجها، حين فسر لها قتل جو بثلاثة مبررات “لا رابع لها” على حدّ قولها: “إمّا نسوان أو مخدّرات أو قمار”، وهي اللحظة التي أمسكت نايلة والدها من سترته كي لا يتعرّض للعنصر الأمني.
يشتدّ غضب نايلة من التصرّفات الأمنية الغامضة مع القضية، ويأخذنا الحديث إلى اللحظة الأصعب في صباح 21 كانون الأول 2020، في تمام الساعة السابعة تحديدًا، “اللحظة التي صعدت روحه بين يديّ… كانت أصعب لحظة لأنني كنت عاجزة عن فعل أيّ شيء، لم أستطع أن أحميه، الصليب الأحمر كان أول الواصلين، لكنّ جو كان قد فارق الحياة، وجهاز المخابرات وصل بعد 20 دقيقة فقط من الجريمة، وتفقّد الكاميرات، والعقيد جان غنطوس حضر عند الساعة 7:30، بينما وصلت قوى الأمن الداخلي في تمام الساعة التاسعة”.
تتحدّى نايلة دموعها وتكمل الحديث، وتخبرنا كم هي الحياة صعبة من بعد جو: “البنات كتير معوّدين عليه، هو كان كّل شي”، حتّى أنّها في الفترة الأولى واجهت صعوبة مع طفلتيها اللتين كانتا ترفضان النوم من دون والدهما، لاسيما وأنّ الطفلتين شاهدتا والدهما مضرّجاً بدمائه، وتاكيًا على المقعد الآخر لحظة تحضّرهما لصعود السيارة”.
ربما تالا، الطفلة الصغيرة، لم تفهم ما حصل، لكنّ آية تحتاج اليوم إلى متابعة من طبيب نفسي: “فهي تكثر من الحديث عن مشهد الدم، ورسمت ذات يوم وجه رجل ولونته بالأحمر، وقالت لي (هيدا بابي، بابي مش حلو، بشع كلّو دم) لكن مع المتابعة تحسّن وضعها واليوم تذكر والدها دائمًا لكن من دون استرجاع مشهد القتل والدماء”.
لو عاد بها الزمن إلى ما قبل الحادثة، تتمنّى نايلة لو أنّها استطاعت الهروب بعائلتها بعيدًا عن هذا البلد، تتمنى لو أنّ الموافقة على الهجرة إلى كندا كانت أسرع: “فقبل أربعة أيام فقط من قتل جو وصلتنا الموافقة المبدئية إلى كندا، لكنهم كانوا أسرع، وأعتقد أنهم كانوا على علم بذلك، وكانوا يتخوفون من هجرة جو وهجرة أرشيفه معه”.
لا تتوقع نايلة العدالة، ولا تنتظرها، حالها حال ضحايا بلد قتلهم المجهول: “أنا أعلم أننا لن نصل إلى أيّ مكان، ولو أرادوا لفعلوا، فالقتَلة كانوا يضعون الماسك نعم، لكنّ وجوههم كانت مكشوفة، وأجسامهم ومشيتهم واضحة على الكاميرا، وهم نزلوا باتجاه بيروت وليس باتجاه البقاع، وكان من السهل توقيفهم”.
تتابع وعيناها ترمقان صغيرتَيْها بحزن، لحذر وعتب يلتهم قصة تحمل في طياتها سرًّا أمنيًّا كبيرًا: “وأعلم أنّهم سيأتون بالملف فارغًا ويقولون لي إنّ التحقيق أُقفل من دون معرفة الجاني… لكنّني لا أريد منهم شيئًا إلّا جوابًا أخبّئه لابنتيّ عندما تكبران وتسألانني لماذا قُتل بابا”.