كتب نجم الهاشم في صحيفة نداء الوطن:
بين بكركي والقوّات اللبنانية ووليد جنبلاط أكثر من محطة لقاء في الخيارات المصيرية والصعبة. من أيّام البطريرك مار نصرالله بطرس صفير إلى أيّام البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مسيرة واحدة مستمرّة شكّلت رافعة لعملية الدفاع عن السيادة والكيان. عندما يلتقي الثلاثة تتجمّع حولهم القوى الأخرى من أجل تكوين جبهة تحمل مشروعاً تغييرياً خلاصياً. وإن كان التعاون في مرحلة صفير شكّل الفصل الأول فإنّ ما يحصل اليوم مع الراعي يشكّل الفصل الثاني.
عندما اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005 التقى أمام مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت وليد جنبلاط والدكتور فارس سعيد. كان ثمة جو إحباط وخوف بسبب هول الجريمة الكبيرة. ولكن في ظل هذا الجو ولدت إرادة التحدّي. اتفق الرجلان على أن يتوجّه سعيد إلى بكركي للقاء البطريرك صفير ومن هناك خرج نعي بطريركي للرئيس الحريري بينما كان جنبلاط ينعيه من قصر قريطم حيث بدأت تتجمّع القوى الرافضة للإغتيال والمطالبة بالحرية والسيادة والإستقلال.
عندما أطلق البطريرك صفير نداءه الشهير في 20 أيلول 2000 وطالب بسحب الجيش السوري من لبنان لاقاه وليد جنبلاط من مجلس النواب مؤيّداً ومطالباً بالبدء بتنفيذ الإنسحاب كما ينصّ اتفاق الطائف وبالتنسيق مع الجانب السوري. يومها تمّ تخوين جنبلاط وتهديده. كان النظام السوري يخاف من أن تتوسّع دائرة تأييد نداء البطريرك صفير وطلب من أتباعه في لبنان الهجوم على بكركي ومحاصرتها وكان المطلوب أيضاً قتل محاولة جنبلاط في المهد. الطرف الثالث في هذا المحور كانت القوات اللبنانية. كان لا يزال رئيسها سمير جعجع في السجن ولكنّ القوات كانت في صلب تأييد ما ذهب إليه صفير باعتبار أنه خشبة الخلاص من عهد الوصاية واستعادة الحرية والسيادة وخروج جعجع من الإعتقال.
في آب 2001 تمت ترجمة هذا الإلتقاء الثلاثي في مصالحة الجبل. لم تكن مسألة بسيطة أن يتوجّه البطريرك صفير إلى الشوف وعاليه وجزين وأن تكون محطّته الأساسية في دار المختارة. وكانت القوات اللبنانية على الأرض الشريك الأكبر في التحضير والتنظيم والمشاركة الشعبية والتغطية السياسية من أجل أن تكون للمصالحة أبعادها الحقيقية. هذه المصالحة أخافت سلطة عهد الوصاية فردّت بانقلاب 9 آب وبحملة اعتقالات واسعة. كان الهدف احتواء احتمال تطوير هذا الحلف ومنع انضمام أي طرف آخر إليه. يمكن احتمال صدور نداء بكركي ولكن لا يمكن احتمال ترجمته على أرض الواقع.
عملية 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية التي نفّذتها مجموعات من تنظيم القاعدة خربطت التوقيت. من احتلال الجيش الأميركي افغانستان وإسقاط حكم حركة طالبان ومطاردة زعيم القاعدة أسامة بن لادن، إلى احتلال العراق وإسقاط حكم صدام حسين دخلت المنطقة في مرحلة التغيير الكبير بعدما بات الجيش الأميركي منتشراً عند الحدود السورية والإيرانية. تلك التطورات فرضت على جنبلاط الإنكفاء. لم تكن بوصلة الأحداث واضحة الإتجاه. انقطع التواصل بين جنبلاط وبكركي وتوقف عملياً مع الدكتور فارس سعيد ولقاء قرنة شهوان الذي استكمل شق طريقه إلى جانب صفير. ولكن هذه المرحلة الإنتظارية لم تطل.
انهيار عامل الخوف
في 26 تشرين الثاني 2003 توفي كبير رجال الدين الدروز الشيخ أبو حسن عارف حلاوي. فجأة اتصل وليد جنبلاط بالدكتور فارس سعيد. طلب جنبلاط أن تكون هناك مشاركة مسيحية في تشييع الشيخ الجليل لما لها من رمزية على تأكيد المصالحة ولما لها أيضاً من دلالات سياسية على الخروج من حالة الإنتظار. طلب جنبلاط من سعيد أيضاً أن يوجِّه دعوة المشاركة باسمه إلى السيدة ستريدا جعجع. أوصل سعيد الرسالة وكان التجاوب كبيراً مع الأخذ بالإعتبار الترتيبات اللازمة لجعل هذه المشاركة تحقّق الهدف المرجو منها. لبّت ستريدا جعجع الدعوة وتوجّهت إلى الباروك مع وفد قواتي كبير. عندما وصل الوفد إلى مكان التشييع كان الترحيب حاراً وقويّاً ومعبّراً. عادت الحرارة إلى الخط الذي فتح في أيلول 2000.
من هناك استعاد لقاء البريستول المعارض حيويته. بعد أقلّ من عام كان الرئيس رفيق الحريري يرسل من ينوب عنه إلى البريستول ويبدأ الإنضمام التدريجي إلى المعارضة الناشئة. وبعد أقل من عام في أول تشرين الأول 2004 جرت محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في منطقة رأس بيروت. لم يمضِ وقت طويل حتى كان جنبلاط يزور بيت سمير جعجع في يسوع الملك وكان الرئيس رفيق الحريري يتصل بالسيدة ستريدا جعجع معايداً في عيد الميلاد 2004 متمنياً خروج الدكتور سمير جعجع من السجن لكي يحصل اللقاء معه من جديد. كانت ثمة مرحلة تنطوي. عندما تم اعتقال سمير جعجع في غدراس في 21 نيسان 1994 كان المطلوب من الجميع أن يخافوا وينصاعوا. بعد عشرة أعوام ظهر أنّ عصر الخوف كان قد انتهى وعصر مفاعيل سجن سمير جعجع قد انطوى. كان بإمكان وليد جنبلاط في البريستول أن يقف ويعلن رفض استدعاءات رستم غزالة ورفض زيارة الشام بينما كان صوت البطريرك صفير في كل عظة أحد وفي كل مناسبة لا ينفكّ يطالب بالتحرّر من سلطة الوصاية وبعودة جيش النظام السوري إلى سوريا.
من صفير إلى الراعي
اليوم يبدو أن التاريخ يكرّر نفسه. كان من الطبيعي أن يزور وفد من القوات اللبنانية بكركي يوم الأربعاء 24 شباط الجاري، وأن يكون من بين زوار البطريرك الراعي الوزير السابق غازي العريضي موفداً من الوزير وليد جنبلاط من أجل دعم مطلبه بإعلان حياد لبنان وبتدويل حل القضية اللبنانية للخروج من هذه الأزمة في مواجهة مباشرة مع ما ذهب إليه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الذي ردّ على مطالب الراعي باعتباره أنّها تمهّد لحرب جديدة وأنّها مزحة.
لم يكن من قبيل الصدفة أيضاً أن يشارك جنبلاط بالصوت والصورة عبر التواصل الألكتروني في لقاء سيدة الجبل مع الدكتور فارس سعيد والتأكيد على دعم مواقف البطريرك الراعي. هذا الإلتقاء الجديد القديم يشهد استكمال فصل التعاون الثاني بين بكركي وجنبلاط والقوات وفارس سعيد على خط استعادة الحرية والسيادة والإستقلال في مرحلة يكثر فيها الحديث المباشر من جانب “حزب الله” عن نهاية مرحلة كيان لبنان الكبير ودخول مرحلة جديدة وعصر جديد يعتبر انقلاباً كاملاً على هوية لبنان وكيانه وطبيعته وعلّة وجوده.
عندما توفي البطريرك صفير كانت مشاركة القوات كثيفة ومعبّرة في التشييع وكذلك كانت مشاركة وفود من الحزب التقدمي الإشتراكي والجبل. غداً يوم السبت قد تتكرّر المشهدية في بكركي أيضاً من خلال مشاركة شعبية كبيرة من ضمنها القوات والإشتراكي في تأييد مواقف البطريرك الراعي. وهناك في تلك الساحة قد تكون بداية قيامة لبنان. كما انكسر حاجز الخوف من عهد الوصاية السورية في العام 2004 يبدو أن عصر الخوف من تهديد “حزب الله” انكسر أيضاً. ولا عودة إلى الوراء.