كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
فاجأ السيد حسن نصرالله الوسط السياسي بردّه على دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي لعقد مؤتمر دولي بالتهويل بالحرب، فيما كان بإمكانه تجنُّب الإشتباك مع بكركي في دعوة لن تتحقق غداً، وبحاجة لظروف خارجية وداخلية. فما الذي دفعه إلى هذا الردّ التهديدي؟
يدرك السيد نصرالله، انّ اي اشتباك بينه وبين البطريرك الراعي ينعكس سلباً على حليفه «التيار الوطني الحر»، الذي يبحث عن «مشكل بالناقص لا بالزايد» مع بكركي التي تتقدّم سياسياً وشعبياً، في الوقت الذي يتراجع فيه التيار، الذي كان من مصلحته لو حيِّدها نصرالله بدلاً من مواجهتها، لأنّ أي مواجهة من هذا النوع ستزيد الالتفاف المسيحي حولها وتوسِّع الشرخ مع العهد، فيما يفضِّل التيار ان يتولّى بنفسه إجهاض مبادرات بكركي وتطويقها بما يخدم «حزب الله»، ولكن من دون دخول الأخير على خط المواجهة معها، وهذا ما فعله النائب جبران باسيل مثلاً، عندما طرح الراعي موضوع الحياد، فأعلن تأييده شكلاً، ونسفه مضموناً، بربطه بالسلام العربي- الإسرائيلي، أو من خلال ربط دعوته للمؤتمر الدولي بتوافق جميع اللبنانيين.
فأي اشتباك بين «حزب الله» وبكركي يدفع «التيار الوطني الحر» ثمنه، لأنّه لا يستطيع ان يقف مدافعاً عن بكركي ومهاجماً الحزب، فيجد نفسه محرجاً في موقع ملتبس وفي مواقف غير مفهومة. وعدا عن خسارته المسيحية، فإنّ أي مواجهة من هذا النوع تقوّي بكركي و»القوات اللبنانية» على حسابه، ومن هذا المنطلق يفضِّل ان يحصل من الحزب على وكالة حصرية بالتعامل مع بكركي، خصوصاً انّ شدّ العصب المسيحي يشكّل شغله الشاغل، فيأتي موقف نصرالله ليطيح كل ما راكمه على هذا المستوى.
وفي سياق التواطؤ نفسه بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر»، جاءت الرسالة التي وجّهها رئيس التيار جبران باسيل إلى الفاتيكان، في محاولة لإبراز أولويات أخرى غير التي يتحدث عنها الراعي بين الحياد والتدويل. والهدف من هذه الرسالة إغراق الكرسي الرسولي باقتراحات عدة وأولويات مختلفة بين مرجعيتين مسيحيتين بكركي وبعبدا، وذلك في محاولة لفرملة، بالحدّ الأدنى، أي تبنٍ محتمل للتدويل وتعطيل الدور الفاتيكاني، أو ان يأخذ الفاتيكان، بالحدّ الأقصى، الوجهة العونية في الاعتبار، بكونها تواجه «مؤامرة كونية» هدفها الإطاحة بالحقوق المسيحية، وضرورة ان يتراجع المجتمع الدولي عن معادلة الإصلاحات كمعبر للمساعدات، لأنّه في حال لم تتمّ مساعدة لبنان فإنّه قد ينزلق نحو الانفجار، بما يهدّد الوجود المسيحي في لبنان.
فالهدف من الرسالة إلى الفاتيكان إذاً مزدوج: السعي الى عدم تبنّي البابا للمؤتمر الدولي الذي يشكّل هماً لـ»حزب الله»، وكسر معادلة الإصلاحات مقابل المساعدات، لأنّ لا إصلاحات في الأفق، ليس فقط بسبب التعثُّر في تأليف الحكومة، بل لأنّ الفريق الحاكم ليس في وارد الإقدام على إصلاحات، والدليل الحكومة المستقيلة التي لم تتمكن من تحقيق أي شيء، وبالتالي الهدف الثاني للعهد والحزب هو استمرار الستاتيكو الراهن تجنباً لانهياره بفعل الوضع المالي والمعيشي، لأنّه في حال انهياره يفقد الحزب ورقة الدولة التي ما زال يمسك بمفاصلها.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا دخل السيد نصرالله شخصياً على خط الردّ على البطريرك الراعي، وفي ردّ بعيد عن السياسة ملوّحاً بالحرب، ولم يترك مهمة معالجة دعوة الراعي، كما يفعل دوماً، على عاتق حليفه «التيار الوطني الحر» الذي ينفِّذ له المهمة على مستوى الالتفاف على مواقف بكركي ودورها على أحسن وجه؟
وفي الإجابة، يمكن التوقف أمام الأسباب التي جعلت نصرالله يتجاوز اعتبارات حليفه المسيحية، وإحراجه بردّه الناري على البطريرك، والتي يمكن وضعها ضمن الآتي:
أولا، يسعى «حزب الله» إلى مراعاة حلفائه إلى أبعد حدود ممكنة، ولكن ضمن إطار الحياة السياسية الداخلية، إنما كل ما يتصل بسلاحه ودوره الذي يتجاوز الإطار المحلي السياسي، لا يراعي فيه مطلق أي حليف، والدعوة إلى مؤتمر دولي تدخل ضمن الإطار الذي لا يتشاور فيه مع أحد، لأنّ أولويتي سلاحه ودوره تتجاوزان كل الاعتبارات السياسية والحسابات المحلية، ويخشى من ان يشكّل المؤتمرا تهديداً للسلاح والدور.
ثانياً، يرى انّ انعقاد أي مؤتمر دولي يشكّل خطراً وجودياً عليه، لأنّه يعتبر بالأساس انّ المجتمع الدولي ضدّه، وانّ مؤتمراً من هذا النوع سيضع حكماً سلاحه ودوره على طاولة البحث، الأمر الذي لا يهادن فيه.
ثالثاً، يعتبر انّ بكركي بعمقها الفاتيكاني يمكن ان تستقطب تدخّلاً دولياً، حيث من المعروف انّ للفاتيكان تأثيره الدولي المعنوي الكبير، وفي حال تبنّى الفاتيكان دعوة بكركي وأخذ على عاتقه الضغط لانعقاد المؤتمر، يصبح انعقاده مسألة وقت لا أكثر.
رابعاً، يعتبر، ربطاً بالتجربة التاريخية الحديثة، انّ بكركي نجحت بالتراكم الذي بدأته مع نداء أيلول في العام 2000، في المساهمة الأساسية بإخراج الجيش السوري من لبنان، وانّ أي تراكم مشابه يمكن ان يقود إلى النتيجة نفسها، وبالتالي أراد ان يرفع السقف إلى حدوده القصوى ملوحاً بالحرب، في محاولة لفرملة اندفاعة بكركي في هذا الإتجاه.
خامساً، ينتمي «حزب الله» إلى المدرسة الأيديولوجية التي تعتبر انّ كل ما يمتّ الى الخارج والتدويل بصلة، هو كناية عن مؤامرة كونية، وهذا في صميم عقيدة وتوجّه القوى التي تنتمي إلى هذه المدرسة المعزولة عن العالم، وبالتالي اي مقاربة تدويلية تعتبرها تلقائياً مؤامرة خارجية.
سادساً، يخشى الحزب من ان تُطلق بكركي مع دعوتها التدويلية، دينامية داخلية تؤدي في نهاية المطاف إلى تهيئة البيئة الداخلية لأي تقاطع خارجي يقود الى خروج الوضع عن سيطرته.
سابعاً، لا يجب إسقاط فرضية ان يكون «حزب الله» قد تقصّد أيضاً الاستفزاز والتلويح بالحرب، من أجل جسّ النبض الدولي والفاتيكاني ضمناً، لمعرفة ما إذا كانت مبادرة البطريرك الراعي لها الصدى الدولي الذي يخشى منه.
ثامناً، يراقب «حزب الله» بحذر شديد التطورات التي تحصل على مستوى المنطقة وفي طليعتها السلام العربي-الإسرائيلي المتمدد، واحتمالات إحياء المفاوضات النووية، وما قد ينتج منها من تسوية تتعلق بالدور الإيراني ضمناً، الأمر الذي يجعله يتوجّس من اي مؤتمر دولي يواكب الهندسات التي تحصل في المنطقة.
تاسعاً، يعتبر الحزب انّ الحصار الدولي المفروض على لبنان لا علاقة له بمعادلة الإصلاحات كشرط للمساعدات، إنما يرتبط بقطع الأوكسيجين عن لبنان من أجل قطعه على الحزب، وانّ اي مؤتمر دولي يأتي استكمالاً لهذا الحصار.
عاشراً، يرى «حزب الله» انّ الانهيار المالي والضائقة المعيشية والواقع الاجتماعي والغضب الشعبي، أوجدت أرضية صالحة لأي تدخّل خارجي، فيأتي المؤتمر الدولي الذي دعت إليه بكركي، تجسيداً لهذا الواقع وتسريعاً لانعقاد هذا المؤتمر تحت عنوان تلافي الأسوأ.
فلكل هذه الاعتبارات، وغيرها ربما، صعّد «حزب الله» ضدّ بكركي، في محاولة لقطع الطريق على دعوتها الأممية. ولكن الثابت في كل هذا المشهد، انّ بكركي لم تتراجع، بل تمسّكت بدعوتها، وانّ معظم اللبنانيين باتوا على قناعة بأنّ لا حلّ من دون تدخّل دولي حاسم، وانّ لا خروج من الانهيار والفشل بإرادة لبنانية، من دون مساعدة دولية على أساس شروط جديدة.