حين واجهت بكركي التهويل على طرح التدويل ونداء التحييد الإيجابي للبلد، وردّت مصادرها على مقولة “ما حدا يمزح بهالموضوع” بالتشديد عبر “نداء الوطن” على أنّ “بكركي ما بتمزح”… لم يكن ذلك تجسيداً إلا لحسّ وطني مسؤول عزّ مثيله تحت قبضة سلطة تكاد بين “المزح والجد” أن تسحق الكيان وتمحق هويته، فكان لا بد من كلمة حق في وجه سلطان جائر، عبّر عنها خير تعبير البطريرك الماروني بشارة الراعي بصلابة وطنية منزّهة عن الحسابات السياسية ودهاليزها الطائفية والمذهبية والفئوية الهدامة لفرص انتشال أشلاء الدولة من كمّاشة الصراعات الداخلية والخارجية.
ولأنّ أهل الحكم استغرقوا في إعلاء نكاياتاهم وأجنداتهم على مصالح الناس والوطن، ولا يزالون يتعامون عن واقع الجوع والوجع الذي يكابده اللبنانيون، إيثاراً لطموحات سلطوية ووصايات عابرة للحدود تجرف الكيانات والهويات الوطنية، آثرت بكركي في المقابل تلقّف راية المسؤولية بعدما تخلى عنها أركان السلطة، فبادرت إلى دق الجرس: وقت “الاستقلال الثالث” حان ولا بد لقيد التعطيل والتهويل والاستقواء على الدولة أن ينكسر!
ففي اليوم الخمسمئة لثورة 17 تشرين، سيشهد الصرح البطريركي في بكركي تقاطر حشود شعبية وسياسية ثائرة ضد وصايات الداخل والخارج، متعطشة لاستكمال طريق الاستقلال والحرية والسيادة الذي عبّده البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير في نداء المطارنة الموارنة عام 2000، وعمّده الرئيس رفيق الحريري بدمائه عام 2005، فكان الاستقلال الثاني من الوصاية السورية.
واليوم، على قاعدة “لكل استقلال بطريرك”، يسير البطريرك الراعي على خطى أسلافه ليشق الطريق أمام “استقلال ثالث” يحرر الدولة ودستورها من كل أشكال الوصايات ليستعيد الكيان اللبناني حياده التاريخي عن الصراعات الإقليمية والدولية، فيعود أبناؤه للاجتماع على كلمة سواء، تسمو فيها “المواطنية” على الولاءات الحزبية والطائفية والمذهبية، وتعلو فيها ثلاثية “الشرعية والميثاق والدستور” فوق كل الأحاديات والثنائيات والثلاثيات التي لم تجلب سوى الويل والهلاك للبنانيين.
بالشكل والمضمون، ستشكل المحجة السيادية إلى بكركي اليوم رسالة مفصلية فاصلة بين زمنين، الأول زمن إقامة الدولة الجبرية تحت سطوة الدويلات والمحاور، والثاني زمن بناء الدولة الحرة المتحررة من هذه السطوة ومن كل تأثيراتها السلبية على حياة اللبنانيين بأمنهم واقتصادهم ومعيشتهم وعلاقاتهم العربية والدولية. ولأنّ الاجتماع في باحة الصرح سيكون منزوع الولاءات الطائفية ليشمل سياديين من كل الطوائف والمناطق، طامحين إلى إخراج البلد من قبضة المنظومة التي عاثت هدراً وفساداً في خزينة الدولة وأمعنت في رهن مصير اللبنانيين بمطامح سياسية ومطامع خارجية تزيد في قهرهم وإفقارهم، فإنّ البطريرك الراعي سيعبّر في كلمته عن اقتناعه بأنّ الأوضاع السياسية والوصايات والتدخلات الدولية المتلاحقة لعبت الدور الأكبر في ما آلت إليه الأوضاع من انهيار شامل، ومن هنا لا بد للتغيير أن يبدأ من تموضع لبنان وتكريس حياده ليصل حكماً إلى الإقتصاد وإصلاح مالية الدولة.
ولن تكون الكلمة التي سيلقيها الراعي أمام الجماهير، حسب معلومات “نداء الوطن”، إلا إستكمالاً للمسار الذي يسلكه منذ تموز الماضي، فهو سيؤكّد على أهمية الحياد وتطبيق الدستور وإنقاذ الدولة وإعادة هيبتها بشتى الوسائل، وسيتوجّه إلى المجتمع الدولي طالباً منه تحمّل مسؤولياته في إنقاذ لبنان بعدما فشل المسؤولون فيه في إنجاز هذه المهمّة.