كتبت مريم مجدولين لحام في “نداء الوطن”:
بعد عقود من النضال، وجّهت جائحة “كورونا” ضربة قاصمة للنساء، خصوصاً الأمهات العاملات اللواتي يتحمّلن غالبية مسؤوليات رعاية الأطفال في مجتمع يرمي عبء التربية عليهنّ بالدرجة الأولى، وبعدما أصبح إلحاق الأطفال بالروضات في لبنان بعد الجائحة أمراً “الكترونياً” ومُمَكنَناً، تماشياً مع إجراءات حظر التجوّل وما يفرضه من “تعلّم عن بعد”، وتحمّلت الأمهات العاملات المزيد من المسؤوليات “التعليمية”، وفي كثير من الأحيان تقلّصت ساعات عملهنّ أو تركن وظائفهن بالكامل استجابة لما فرضته عليهنّ الظروف.
ليس من مبدأ تشويه سمعة الاقتصاد المنزلي، ولا تقليلاً من العمل النسائي التقليدي، إنما إنصافاً للواقع، ومنذ بدء الجائحة، كان النساء والأطفال أولى ضحايا “كورونا” الصامتين، ولعلّ أهمّ ما أثّر على ارتفاع ارقام البطالة بشكل كبير، مشكلة “تأنيت التربية” في مفاهيم كنّا نظن أنّه عفّى عليها الزمن من أدوار مجتمعية تنميطية للمرأة ومسؤولياتها من جهة، ومعاناة الأطفال (بخاصة من هم دون الـ7 أعوام) مع التعليم عن بُعد. فخِلافاً لما تعانيه أي مرحلة تعليمية من مشاكل، تبدو مرحلة رياض الأطفال أكثرها مشقّة في معالجة التحدّيات والصعوبات التي تُعرقل مسار هذا النوع من التعليم والتصدّي لها. فقد أثبت العام الماضي أنّ التعليم الإلكتروني للأطفال تحديداً كان غير موفّق لعدة أسباب أهمها ضعف تأهيل الأهالي.
إستقلال المرأة
ووِفق مشهد تصويري متخيّل لما تغيّر بعد الجائحة، قد تكون آمال النساء في تحقيق المساواة بين الجنسين عملانياً ضحية أخرى لفيروس “كورونا”، فقد تمّ تغييب استقلال المرأة وتوقّفت خيارات رعاية الأطفال كلياً، إلا منهنّ من استطاعت توظيف معلمة خاصة وموثوقة، وبمقابل مادي معقول لتلبية هذا الطلب، وهنّ قلّة في هذا المقام، مما ألحق الضرر بالأمّهات العاملات، ولا سيما الأمّهات ذوات الدخل المنخفض والمتوسط. وازدادت احتمالية بقاء النساء خارج القوة العاملة أو تركها، لدرجة يبدو فيها أنّ أزمة رعاية الأطفال الناجمة عن فيروس “كورونا” ستعيد النساء جيلاً إلى الوراء، فغالبية الأمهات العاملات استقلن من أعمالهن لرعاية أطفالهن، وسوق العمل في لبنان والعالم أجمع قد لا يكون هو نفسه أبداً.
وتؤكّد الخبيرة التربوية سارة عيتاني لـ”نداء الوطن” أنّ نساء كثيرات في لبنان وقعن ضحية التحوّل الفجائي للتعليم الافتراضي، وقدّمن تضحيات مهنية من أجل رعاية أسرهنّ، واضطررن لترك أعمالهن لما يواجه أطفالهن من صعوبة في التعامل مع المنصّة التعليمية الالكترونية، وبخاصة من هنّ أمهات لأطفال دون السابعة من العمر. وعلى الأغلب، في حال تمّت دراسة الواقع بالأرقام، من المرجّح أن يظهر أنّ معظم الفجوات المهنية بين الجنسين في لبنان هي في الواقع فجوات أمومة، إذ إنّ النساء اللواتي ليس لديهن أطفال هنّ أقرب بكثير إلى التكافؤ مع الرجال، عندما يتعلّق الأمر بالرواتب والترقيات والعمل في زمن “كورونا”، أما الأمهات فيدفعن وحيدات غرامة مهنية كبيرة وحالياً أكثر من أي وقت مضى… فالوباء وتعثّر المدارس ومقدّمو رعاية الأطفال زادوا الضغط على الأمهات العاملات أولاً.
أما تالين عون فتشرح لـ”نداء الوطن” كيف أدّى تفشّي الفيروس إلى تركها العمل وتقول: “بالنسبة لي كأمّ لطفلين صغيرين في مرحلة الروضة، تسبّب الوباء في ظهور تحدّيات إضافية حيث لا يزال العديد من المدارس ومرافق رعاية الأطفال مغلقة. حتّى العمل من المنزل بات صعباً جداً، وقد كافحت كثيراً من أجل الحفاظ على جدولي المرهق بين مكالمات العمل المستمرّة وتعليم أطفالي. استمرّ تعبي لأسابيع حتى أدركت أنّ طفليّ لا يستطيعان الاندماج في التعليم، وبالكاد تلفتهما الشاشة والتواصل مع المعلّمة حتّى بوجودي معهما. واستصعبت عملي لأنّني بتّ خائفة على المستوى العلمي لأطفالي، واخترت ترك العمل. أما المشكلة الأكبر فهي اكتشافي أنّني غير جاهزة حتّى للتعليم الإفتراضي وصعوباته، فالمحتوى التعليمي في بعض المواد لا يصل إلى طفليّ عبر الشاشة! وأنا أفتقر القدرة على تفهيمهما بطريقة سلِسة مناسبة لعمريهما ما يحاول الأستاذ أو المعلّمة إفهامهما. وبكلّ صراحة، بتّ أقوم بأبحاث عبر الانترنت كي أتعلّم كيفية مساعدة طفليّ في العملية التعليمية، والصعوبة أنّه لا توجد أي دورات تدريبية لنا كأهالٍ، للارتقاء بمستوياتنا وقدراتنا ومهاراتنا. وعلى المقلب الآخر للأمور، أتساءل بعض الأحيان متى باتت عملية التعليم “متعبة” إلى هذه الدرجة؟ ولماذا عليّ أن أتخصّص تعليمياً كي أعلّم أطفالي”؟!
الأطفال والتعليم الإفتراضي
إذاً، ليست الأمهات فقط من يواجهن الصعوبات، بل يبدو أنّ الأطفال الصغار هم أيضاً في الصفوف الأولى لضحايا “كورونا”. يؤكد غالبية أولياء الأمور أنّهم يفضلون التعليم الوجاهي لصعوبة الاعتماد على التعليم الإفتراضي مع أطفالهم، ويتساءلون عن مدى فعالية تطبيقه نظراً لافتقارهم “كأساتذة بالصدفة” للجوانب التربوية والتعليمية التي يتمتّع بها معلّمو الروضات، وصعوبة السيطرة على أطفالهم للالتزام بالقوانين في مساحات البيت، التي هم محصورون بين حيطانها للأكل واللعب والدرس والمشاغبة في آن معاً، ناهيك عن فقدان أبنائهم فرصة الاندماج في المجموعات، والتعرّف على مفهوم المنافسة، واكتساب مهارات من الصعب اكتسابها في مرحلة التعليم الافتراضي، فضلاً عن ضعف مهاراتهم في استيعاب أبنائهم أو معرفة احتياجاتهم من المعارف المناسبة لأعمارهم.
وترى ميساء الدنا أنّ التعلّم عن بعد أتعبها جداً كأمّ لطفلة ذات الخمسة أعوام، وتقول لـ”نداء الوطن” إنه يشكّل لها معاناة كبيرة، لا سيّما مع وجود الضغوط الحياتية الأخرى بالرغم من تركها العمل. وتتابع “مع أنّ ابنتي مجّرد طفلة إلا أنّ أكثر ما أخشاه هو ايماني بأنّ التعليم الافتراضي لن يغني عن التعليم التقليدي، وأنّ استمرارنا على هذه الحال سيؤدّي إلى تراجع المستوى الأكاديمي للجيل المقبل، فابنتي بالكاد “عم تفكّ الحرف” بالرغم من أنّني أحاول بشتّى الطرق بحسب قدراتي المتواضعة تعليمها، فأنا لم يتمّ تأهيلي وتحضيري لتحدٍّ كهذا. في جيلنا، أذكر أنّ أمّي كانت تتابع فروضي في تكامل بين دورها ودور الأساتذة، أمّا اليوم فتحوّلنا كأمهات إلى معلمات 100% في المنزل، فهناك أصلاً صعوبة في جدوى التعليم الافتراضي مع الأطفال من الأساس! وهنا أتساءل ماذا عمّن لا تستطيع متابعة أطفالها؟! ماذا تفعل؟! أما المشكلة الأكبر فأعتقد أنّها في عدم تعلّم طفلتي ما معنى أن يكون لديها أصدقاء، ما معنى الفرصة والملعب والمنافسة و”المريول” والشنطة والتجربة الدامجة لها بحدّ ذاتها. وأخاف، إن طال أمد هذه الحالة الانعزالية، أن تواجه صعوبات اجتماعية، اندماجية وفي تكوين شخصيتها، إذ أنّ معظم تحدّيات المنظومة الافتراضية حالياً، تركّز على كيفية فهم الدروس، ولا تقارب أبداً ما خسره أطفالنا من تجارب حُرموا منها”.
تقول معلمة الروضة لارا التنير أنّ أهمّ ما يواجهها من تحدّيات في مرحلة رياض الأطفال هو قلّة التحفيز، بسبب غياب التفاعل المباشر بين الأطفال وبينها كمعلّمة، وأحيانا عدم الالتفات أو المشاركة أو أن يتكلّم الأطفال مع بعضهم البعض، وأن يكون مثلاً الصوت مفتوحاً عند أحدهم فنسمع صوت جرس المنزل، وكلّ ذلك يؤثّر على مهارات الطفل مثل مهارة النطق الصحيح واللغة، ناهيك عن مشاكل المهارات الاجتماعية نتيجة غياب البيئة المدرسية المتعارف عليها، ومشاكل الاتصال بالإنترنت وعدم القدرة على التعامل مع التكنولوجيا بسلاسة، فضلاً عن عدم فعالية التعلم عن بعد وتواضع نتائجه في تلك المرحلة.
وفي محاولة للوقوف على حلول عاجلة تقول إنها توقّفت عن أسلوبها التقليدي والاعتيادي، وبدأت تقوم بضعف العمل الذي كانت تقوم به، مبتكرة طرقاً فيها من التكنولوجيا أكثر وأرسل للأهالي “ابليكايشن” ليلعب طفلهم بالأحرف الأبجدية والفواكه واللغات والألعاب التعليمية الرقمية التفاعلية، والتي برأيها إن كان هناك متابع في المنزل، فسيكتسب الطفل مهارات أكبر ممّا كان يكتسب من قبل، بعكس ما يظنّه البعض. فالكتب باتت أصلاً مملّة، وبرأيي فإن التعليم عن بعد سيؤسّس لمرحلة مهمة جداً من ناحية التكنولوجيا عندما تعود الأمور إلى نصابها.
وبما أنّ التعليم، شأنه شأن أي قطاع آخر، ينبذ عدم التقدّم وعدم التطور، فإن فيروس “كورونا” قد ضرب أيضا مراوحته في المكان ذاته وعليه، في كل ما سبق من مشاكل، “نور” صغير ينبثق، علّ وزارة التربية تلتفت إليه وتعدّل مناهجها التي من المفترض أن تتعدّل عملاً بالتغييرات المفروضة على الأقلّ. وللنساء معركة أخرى تضاف الى معاركهنّ اليومية في خضمّ الوباء حتّى!