كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
“إبن بطرس على خطى إبن سلمان وإبن زايد.. الى التطبيع دُر!”
بهذا العنوان الشتائمي والتخويني، عنونت قناة العالم الإيرانية أحد مقالاتها المنشور في الثالث من آذار ٢٠٢١ حاملاً شحنات غير مسبوقة من التحامل والاستهداف والتطاول الصادر عن مؤسسة إعلامية إيرانية رسمية على الكرسي البطريركي الماروني لأنطاكية وسائر المشرق الذي يتولاه مار بشارة بطرس الراعي، في موقف يعكس الحجم الهائل للحقد والغضب الذي تحمله إيران لسيد بكركي، ولم يتمكن «حزب الله» من إخراجه، لاعتبارات مرتبطة بوضعية حليفه المسيحي الرئيس ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل.
قيام الدولة خيانة؟
عملت قناة «العالم» على جعل فكرة قيام الدولة مساوية للانهزام في وجه العدو الصهيوني، فاعتبرت أنّ جعل قرار الحرب والسلم بيد الدولة وحصر السلاح بيد الشرعية، من عوامل إضعاف «المقاومة»، وطرح الحياد يعني الانحياز إلى الصهاينة، «حتى انتهى الأمر (بأصحاب هذا الطرح) إلى الارتماء في أحضان “اسرائيل”.
ماذا طرح البطريرك الراعي؟
قال الراعي في كلمته التي ألقاها في استقبال الحشود المتضامنة معه في بكركي: “لقد وُلدنا لنعيشَ في مروجِ السلامِ الدائم، لا في ساحاتِ القتال الدائم. وجميعُ مشاكلِ الشعوبِ صارت قابلةَ للحلِّ بالحوار والتفاوض والعلاقات السلمية. قدرُ الإنسانِ أن يخلقَ أصدقاءَ لا أعداء. وأن يَحملَ المحبّةَ لا الأحقاد. ورسالةُ لبنان أن يكونَ مثالَ العلاقاتِ الإنسانيّةِ السلميّة. ومهما طال الوقت، لن ينجح أحد في أن يَقضيَ على هذا اللبنان وهذه الرسالة”.
كان همّ الراعي الأول الحديث عن السلام بين اللبنانيين، وتحذيره من العودة إلى الحرب فيما بينهم، فضلاً عن أنّ طرح السلام هو القاعدة في تناول العلاقات الإنسانية وليس الحروب، ومن هنا برزت معادلة: غصن زيتون «السيّد البطريرك» مقابل بندقية “السيّد الأمين العام”.
الغريب والمستهجن في هذا السياق أنّ قناة «العالم» هذه لم تستشط غضباً عندما تحدث الرئيس ميشال عون عن الاستعداد لصنع السلام مع «إسرائيل»، معتبراً أنّ السلام سيكون متاحاً إذا جرى حلّ المشاكل القائمة معها أولاً: «لدينا مشاكل مع إسرائيل وعلينا حلها أولا». (15-8-2020). كما أنّنا لم نشاهد هذا الغضب الإيراني عندما قال النائب جبران باسيل بتاريخ 28 ديسمبر 2017 إنّ «الخلاف مع إسرائيل ليس أيديولوجيا»، و«نحن لا نرفض أن يكون هناك وجود لإسرائيل وبحقها بالعيش بأمان»، مضيفاً: “نريد لكل الشعوب أن تعيش بأمان وأن تعترف بالآخر نحن شعب نريد الآخر برغم اختلافنا معه”.
يحقّ لإيران ما لا يحقّ لغيرها: التفاوض والتخوين
يذكر اللبنانيون والعرب كيف أشاعت إيران وحلفاؤها الأجواء الاحتفالية بعد توقيع الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الكبرى أيام إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ويعلم الجميع بأنّ ما تسعى إليه إيران هو الجلوس والتفاوض ثم الاتفاق مع واشنطن لتحصل على تفويض من «الشيطان الأكبر» باستباحة العالم العربي في ظل عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض. ومع هذا، فإنّ قناة «العالم» لم تستح من وصم مسيرة البطريرك الراعي بأنها تسلك «النهج العار والخياني الذي سار عليه جميع المطبعين العرب وجميع السائرين على نهجهم(..) يسير عليه اليوم خطوة بخطوة شخص البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، في لبنان، مدفوعاً بجماعات يمينية معروفة بعلاقاتها الوثيقة مع «اسرائيل» والسعودية والرجعية العربية يقودها القاتل سمير جعجع، حيث بدأ بذات الخطاب المكشوف حول «حصر السلاح بيد الدولة»، و«عدم أخذ حزب الله قرار الحرب والسلم رهينة»، و«عدم الانخراط في سياسة المحاور»، وضرورة اعتماد «سياسة الحياد»، و«تدويل القضية اللبنانية لعجز أبنائها على حل قضاياهم»، وهي مواقف حذّر من مخاطر مآلاتها، الخيرون من أبناء لبنان، ومن بينهم تيار قوي ومؤثر من الطائفة المارونية، الذي يزعم بشارة الراعي تمثيلها.
واصلت قناة «العالم» هجومها على البطريرك الراعي بالقول: ،خوف اللبنانيين من نهاية الطريق الذي انتهت به هذه المواقف عادة، كان في محله، بعد كلامه عن السلاح والقرار المرتهن والحياد، حيث خرج علينا إبن بشارة, كما خرج علينا من قبل ابن سلمان وابن زايد وابن خليفة، من على شاشة «الحرة» الامريكية سيئة الصيت، ليعلن جهارا نهارا، انه يؤيد «السلام مع اسرائيل» والتفاهم بين الدول لا الحروب”.
التطاول على البطريرك ومقامه
ختمت قناة «العالم» مقالها بالتجريح والإساءة البالغة إلى شخص البطريرك ومقامه، حيث قالت: “بات واضحاً للجميع، أنّ كل شخص، حتى لو أضفى على نفسه ما أضفى من هالات القدسية، نراه يتعرض اليوم لسلاح المقاومة، ويصف المقاومة بأنها «ميليشيا موالية لإيران»، ويحاول أن يلبس لبوس الحكمة والموضوعية ويتحدث عن «الحياد» في معركة الوجود مع الصهيونية العالمية، سنراه حتما في الغد في أحضان «اسرائيل»، ولا إستثناء في هذه القاعدة”.
بأيّ حقّ يقوم التلفزيون الإيراني بالتعامل مع لبنان كأنه ولاية إيرانية ويطلق الأحكام والتصنيف على قياداته الدينية والسياسية ويعمّم توجهاته السياسية ضدّ من يخالفه، وما هو موقف المسيحيين المؤيدين لـ«حزب الله» من هذا الاستهداف الوقح لمرجعيتهم الدينية. ما هو رأي رئيس الجمهورية وصهره أصحاب الشعارات الرنانة بالدفاع عن حقوق المسيحيين، وهل يمكن أن يمرّ هذا الاعتداء السياسي السافر على الكنيسة مرور الكرام؟
يرفض حزب الله، بل ويلاحق أي شخص أو مؤسسة إعلامية تهاجم أمينه العام، فكيف يرضى المسيحيون، واللبنانيون الذين وجدوا في مبادرة البطريرك ضالتهم الوطنية، بمثل هذا الاستهداف؟
قطع طريق الحوار
ما لم يقله «حزب الله» قالته طهران: مواقف البطريرك الساعية لإنقاذ الدولة والحياد هي نقيض أهدافها ولن تسكت على توجهات الراعي. وبالتالي، فإنّ الحديث السابق عن تحريك لجنة الحوار مع بكركي للاجتماع لم يكن أكثر مناورة وقتية عابرة، لاستيعاب صدمة الموقف الكبير وعالي السقف الذي شيّده البطريرك في كلمته المتماسكة أمام الآلاف الخمسة عشر التي أمّت الصرح في السابع والعشرين من شباط الفائت.
عملياً، قطعت طهران سبل الحوار بين اللبنانيين بإعلان موقفها المستهدِف لبكركي، وهذا يفتح الباب واسعاً أمام خيارات السوء والعنف التي بدأت طلائعها تطلّ من الشارع الواقع تحت لظى الأزمات وتحت وطأة الاختراقات.
ألا في الفتنة سقطوا
تبقى معادلة أخيرة ينبغي تفنيدها، وهي اعتبار «حزب الله» أنّ دعوة البطريرك الراعي إلى قيام الدولة ورفض السلاح غير الشرعي والتمسك بالطائف والدستور، هي دعوة للفتنة بنظر الحزب ومحوره، وهذا يمثل أقصى درجات القمع والإلغاء الفكري والسياسي. والفتنة يجري إيقاظها في مقلب آخر، لتنشب بين السنة والموارنة على خلفية الخلاف على صلاحيات الرئاستين الأولى والثالثة، ويوقد نارها «أبا لهب» السياسة اللبنانية، صهر العهد، عبر المزيد من الطروحات العنصرية البائسة: ألا في الفتنة سقطوا!
لا أحد من اللبنانيين يريد الفتنة ولا الحرب. والحرب غير ممكنة، لأنّ هناك طرفاً واحداً يملك السلاح في البلد، هو «حزب الله» الذي أفشل محاولات التوصل إلى استراتيجية وطنية للدفاع في محطات متعاقبة، ويريد أن يحكم بسلاحه بشكل مباشر. وقد حكم، وها هي النتيجة: كارثة شاملة ودخول لبنان دول محور الممانعة كما قال الشيخ نعيم قاسم، لينضم إلى العراق وسوريا واليمن، في الغرق بالفوضى والتخريب والإفقار والمجاعة والقتل.
إنّه المصير الأسود الذي ينتظر اللبنانيين إذا تمكن «حزب الله» من سوق لبنان إلى محور إيران، حيث يتمتع هو ومحازبوه بالامتيازات «السيادية» كما عبّر عنها وزير صحة الحزب، ويعاني الناس ضنك العيش بلا أفق ولا أمل بالخروج من النفق.