كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
قد لا يكون في مَحلِّه الخوف من اندلاع حرب أهلية. فـ”الكلمة كبيرة”. وعلى الأرجح، لا تتوافر العناصر الكاملة سياسياً وعسكرياً لاندلاع هذه الحرب. ولكن، بالتأكيد، هناك «حربٌ باردة» أهلية تدور اليوم، ويمكن أن تصبح ساخنة في بعض جوانبها، عند أي لحظة. والدلائل إلى ذلك تتزايد.
يَنكبُّ المعنيّون على استجماع المعلومات ودراسة ما يجري على الأرض في الأيام الأخيرة. فهل هي فعلاً انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 «الرقم 2»، أم هناك أمرٌ آخر يدور في «كواليس» الشارع؟
الصورة في 17 تشرين كانت واضحة: إنفجر الغضب الشعبي تحت شعار الإصلاح، واستهدف إسقاط منظومة السلطة التي تدعمها إيران. وحظي بدعم أميركي وغربي.
آنذاك، حلفاءُ إيران الأقوياء وجدوا أنفسهم، فجأة، في موقع الدفاع. ولأنّهم في خطر جِدّي، لعبوا كل أوراقهم في السياسة والاقتصاد والأمن. وقد انتصروا في «المعركة الأولى» واحتفظوا بسيطرتهم الكاملة على مؤسسات الحكم والأجهزة، فيما انكفأت الانتفاضة وتعثَّرت، حتى في إطلاق الحدّ الأدنى من برنامج أو تشكيل قيادة.
تلقَّن «حزب الله» وحلفاؤه درس «المفاجأة» في الأسابيع الأولى من الانتفاضة. وأدركوا أنّ «الهجوم» بانتفاضةً جديدة سيبقى وارداً في لحظة معينة. ولذلك وضع «الحزب» نفسه في جهوزية دائمة، ورسم الخطط لإحباط أي محاولة لانتزاع السلطة منه ومن حليفه “التيار الوطني الحرّ”.
لكن مشكلة «الحزب» الأساسية تكمن في تحدّي المواجهة الإقليمية. وهو يدرك أنّ الضربات الإسرائيلية والأميركية التي تطاول الأهداف الإيرانية في سوريا بدقة وتُتابع، والتي تحظى بتغطية أو سكوتٍ روسيين، تشكّل رسالة واضحة إلى «حزب الله» أيضاً.
وفي تقدير العديد من الخبراء، أنّ قرار منع إيران من امتلاك نفوذٍ في لبنان، يشكّل خطراً على إسرائيل، سيكون محسوماً، أياً تكن المعادلة التي سترسو عليها المفاوضات بين واشنطن وطهران حول الملف النووي.
ولكن، على رغم ذلك، لا يتجنّب «الحزب» أن يرضخ للضغوط ويتخلّى عن القرار في السلطة. وهو يفضّل ممارسة سياسة «الصبر» والصمود، لعلّ التسوية الأميركية- الإيرانية مع جو بايدن تعترف بنفوذه، هو وحلفائه، في السلطة.
إلاّ أنّ المطّلعين على موقف الإدارة الحالية في واشنطن، يجزمون بأن ما لم يقدِّمه دونالد ترامب لإيران لن يقدِّمه بايدن أيضاً، وإن بدا اليوم وكأنّه مستعدّ للتنازل. وللتعبير عن ذلك قال أحدهم تعليقاً على الضربات التي وجّهها الأميركيون، قبل أسبوع، إلى أهداف إيرانية في سوريا:
“إنّ بايدن محنّك سياسياً ويعرف الشرق الأوسط أكثر من ترامب. وبناء على هذه الصفة يقارب الملف الإيراني. وبالتأكيد هو لن يكون أكثر تساهلاً منه تجاه إيران. فما كان يكتفي ترامب بقوله، في تغريدة على «تويتر»، يقوم بايدن بتنفيذه على الأرض، بلا ضجيج، ومِن دون إعلان مسبق”.
إذاً، وفي ضوء هذه المعطيات، سيكون «حزب الله» مضطراً إلى الانخراط في مواجهة كبرى عاجلاً أم آجلاً، ما دام الصراع الذي يخوضه هو جزء من المنازلة الإقليمية- الدولية الكبرى.
ولذلك، ستزداد هواجسه من أي حراك شعبي في هذه المرحلة، إذ سيضعه في خانة الاستهداف لنفوذه. وعلى الأرجح، سترتفع حرارة هذه المواجهة في الأشهر المقبلة، وخلال العام 2022، مع اقتراب الاستحقاقات الدستورية، حيث يمكن أن يكون هو وحلفاؤه في مأزق.
وثمة مَن يعتقد أنّ القوى الممسكة بالسلطة ستحاول تأجيل الاستحقاقات إذا أظهرت المؤشرات تراجعاً في رصيدها الشعبي، قد يؤدي إلى خسارتها السلطة. وربما يكون من هذه المؤشرات حراك بكركي الذي أظهر التفافاً غير مسبوق مع الصرح منذ زمن البطريرك مار نصرالله صفير.
فقد كان مفاجئاً لهذه القوى مدى التجاوب مع طرح البطريرك مار بشارة الراعي في الأوساط الشعبية والسياسية، بغالبيتها المسيحية والسنّية والدرزية، والشيعية جزئياً، إضافة إلى قواعد انتفاضة 17 تشرين. وربما تخشى هذه القوى أن تكون بكركي هي «القيادة المفقودة» للحراك الشعبي، ولو رمزياً. مع الإشارة إلى أنّ فقدان القيادة كان نقطة ضعفٍ أساسية أدّت إلى إحباط الانتفاضة سابقاً.
كما يخشى «حزب الله» وحلفاؤه تداعيات انفجار اجتماعي يتحوَّل تدريجاً إلى عاصفة يصعب ضبطها وتطويق مضاعفاتها. وإذا كانت انتفاضة 17 تشرين قد بلغت ذروةً في التصعيد، عندما كان الدولار دون الـ2000 ليرة، فأي غضب يمكن توقّعه عندما تصل إلى 10 آلاف ليرة وربما أكثر بكثير؟
إذاً، الساحة اللبنانية مقبلة على مرحلة عاصفة، نتيجة الضغوط الداخلية والإقليمية. والصراع الأميركي- الإيراني سيفاقم وضعية الاستنفار. وفي ظلّه سيتكرَّس الاهتراء الداخلي بشكل لا محدود. وحينذاك، سيكون لبنان مرشحاً لتطورات دراماتيكية على الأرض.
البعض يقول: ربما لا تنتهي الأزمة من دون حرب إقليمية تتكفَّل بخلق معادلات جديدة في لبنان والشرق الأوسط. ولكن، ربما يتردَّد هذا الطرف الإقليمي أو الدولي أو ذاك في إشعال أي حرب اليوم، لأنّه ليس مستعداً لدفع أكلافها الكبيرة. وربما يعتقد البعض أنّ هذه الأكلاف ستتراجع كلما ازدادت حالة الاهتراء في لبنان.
يعني ذلك، أنّ القوى الإقليمية أو الدولية ستتسابق على استثمار الاهتراء اللبناني المتزايد، لتحصين المواقع وتحصيل ما أمكن من الأرباح قبل المعركة الحاسمة. وهذا ما يدفع لبنان نحو حالٍ من الفوضى لا حدود لها، وصداماتٍ أو حروبٍ داخلية صغيرة تكون بديلاً من الحروب الإقليمية الكبيرة. ولن يزعج أحداً أن يدفع اللبنانيون من دمائهم ثمن الطموحات التوسعية المتبادلة.