ليس من المنطق أن يبقى الجدل قائما حول مبادرة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي انطلاقا مما يرغب البعض بان يفسرها سواء لدواع ايجابية ام سلبية. وما لم يلجأ القارىء الى الشرح الكافي والوافي الذي قدمه الراعي للمبادرة وما سبقها وما ينوي القيام به لاحقا لن يتوقف النقاش البيزنطي ولن يصل اللبنانيون الى قواسم مشتركة توحي بامكان ولوج الطريق الى التعافي والإنقاذ.
وعليه لم تخرج بعد مبادرة بكركي من دوائر النقاش المحلية ولم تسقط من الاولويات المطروحة بالرغم مما أثاره التحرك الشعبي في الشارع من اعادة نظر بالاولويات. لكن ما كان لافتا ان هذا التحرك وردات الفعل التي قاد اليها تؤكد أهمية ما حملته المبادرة من توجهات، لا بل خرجت الى الدوائر الاقليمية والدولية من خلال سلسلة المذكرات التي رفعت الى اكثر من مرجعية اممية ودولية، فالمبادرة لم تنطلق من فراغ اذ مهد لها الراعي وفتح الطريق اليها مع ممثلي السلك الديبلوماسي في بيروت، ولذلك طرح السؤال: هل من مسؤولية البطريرك المضي وحيدا في تطبيقها ام ان على المسؤولين والقيادات اللبنانية ومعهم بعض المسؤولين الدوليين المهتمين بملف لبنان، مسؤولية السير بما قالت به طالما ان الطريق باتت سالكة وفق خريطة واضحة المعالم وبالإستناد الى قراءة منطقية تبعد لبنان عن المحاور الكبرى وحمايته من تردداتها السلبية؟
لذلك التقت مراجع روحية وسياسية عبر “المركزية” على اقتراح آلية متكاملة تقود الى ما ارادته المبادرة البطريركية انطلاقا من بعض المعطيات التي لا بد من التوقف عندها على سبيل المثال لا الحصر:
– لا يقف دور بكركي عند إدارة الاوقاف المسيحية ورعاية شؤون المسيحيين فحسب، لا بل فقد عبرت بكركي عبر تاريخها عن دورها الوطني في اقامة لبنان الكبير بالتفويض الذي ناله البطريرك الياس الحويك قبل مئة عام من عموم اللبنانيين ومن مختلف الطوائف. وهي بصلاحياتها تتخطى الحدود الجغرافية اللبنانية الى حيث الامتدادات لرعاياها المسيحيين في المنطقة في “انطاكية وسائر المشرق” وهو ما يعني انها تطال برعايتها الدينية بالإضافة الى المسيحيين في انطاكية، سوريا وصولا الى القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة كما اراضي السلطة الفلسطينية ولا تحدها الحدود الجغرافية لبعض الدول، فهي تمتد الى حيث الرعايا والأبرشيات المسيحية في دول الخليج – العربي والقارات الخمس حيث ينتشر المغتربون اللبنانيون.
– لا يمكن التعاطي مع بكركي بمنطق الاتهام بالتدخل في الحياة السياسية اللبنانية، فهي مقصد جميع الاطراف والطوائف اللبنانية وتجمعها بهم آليات تقود الى قمم مسيحية مشرقية واخرى مسيحية – اسلامية وقدمت الكثير من المبادرات التي لجمت مشاريع كانت تهدد وحدة لبنان واللبنانيين كما قادت مبادرات دولية بالتعاون مع مرجعيات دينية اسلامية في المنطقة والعالم ومنها دار ومرجعية “الأزهر” تجاوزت في حضورها في الشأن العام اجتماعيا وثقافيا ولا يمكن تجاهله وإختصاره بادعاء عدم وجود اي حق لها بتناول الشأن العام في لبنان كما يدعي البعض.
-لا يمكن الادعاء بان بكركي بدعوتها الى الحياد تتحاشى خطر العدو الاسرائيلي فهي التي فتحت ابواب اديرتها واراضيها لتتحول مخيمات للفلسطينيين في الجنوب ومناطق مختلفة من لبنان منذ وقوع النكبة عام 1943 وفي اعقاب حرب الـ 67 كما كانت ممن استقبل الهاربين من ايلول الاسود من الأردن وهو امر لم تقدمه طوائف ومذاهب أخرى قبل الدعم العسكري والاعلامي الذي تحظى به ادعاء بالاحتكار للقضية الفلسطينية.
وتأسيسا على ما تقدم، وإن اخذ البعض بعين الاعتبار بان مبادرة بكركي يجب ان تسلك الطرق السياسية والحزبية الاخرى لترجمتها، فان على باقي القوى المسيحية والاسلامية المؤيدة لها ان تسلك هذه الطريق فقد باتت خريطتها والآليات الواجب اعتمادها لترجمتها سالكة وآمنة، ولا بد من هذه القوى السياسية ان تنتهج السلوك المؤدي الى النهايات الحتمية لها فنداء بكركي الذي اطلقه مجلس المطارنة برئاسة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لم يتوقف او ينتهي دوره عند اعلانه في 20 ايلول عام 2000 بل كانت له امتداداته الوطنية الى ان ترجم امرا واقعا.
يدرك الجميع ان اي ازمة عاشها لبنان وهددت كيانه كتلك التي يعيش بوادرها اليوم، لم تنته سوى برعاية وتدخل اجنبيين والتاريخ شاهد على مسلسل المؤتمرات التي تعددت باهدافها ويجمعها السعي الى الإستقرار في لبنان ورعاية المصالحة واعادة اعمار ما هدمه الإعتداءات الاسرائيلية والحروب التي خاضها الغرباء على ارض لبنان واستدرجوا مواطنيه اليها دفاعا عن النفس والشرعية والحرية والسيادة ونقطة على السطر.