يواجه الرئيس سعد الحريري وضعا صعبا لا يُحسد عليه وهو يرى كيف أن الأفق الحكومي والسياسي مسدود أمامه، وكيف أن فرصة تشكيل الحكومة وفق تصوّره وشروطه تحت سقف المبادرة الفرنسية تفلت من يده، وكيف أن الأحداث والتطورات تجاوزت حكومة المهمة واستهلكت فترة الستة أشهر التي حُددت لها.
فمن منظور الحريري هو جاء لترؤس حكومة مهمة، وعلى أساس أن تأليف أي حكومة لا تتوافر فيها شروط النجاح داخليا ولا تلقى غطاء عربيا ودوليا ستفاقم من المأزق اللبناني، لأن إمكانات الخروج من الانهيار ستكون معدومة. وفي اعتقاده أيضا أن الحكومة التي تستند إلى المبادرة الفرنسية كتركيبة حكومية وبرنامج اقتصادي مالي هي المدخل الوحيد من أجل نيل ثقة المجتمع الدولي الذي يتوجه نحو لبنان من أجل مساعدته للخروج من أزمته.
خاض الحريري على امتداد الأشهر الماضية مواجهة مفتوحة مع الرئيس ميشال عون تبيّن معها أن عون لا يمشي بحكومة لا يكون شريكا في تأليفها، لا بل تبيّن أن الرئيس عون لا يريد الحريري، وهو الذي كان لديه تحفظ كبير على عودته إلى رئاسة الحكومة، وعبّر عن موقفه بمخاطبة اللبنانيين عشية استشارات التأليف، مشيرا إلى مخاطر وصعوبات ستترتب على ذلك.. وهذا الموقف السلبي من جانب عون زاد مع الأيام بدل أن ينقص، وحيث يعبّر رئيس الجمهورية أمام زوار مقربين عن خيبته من الحريري وانهيار الثقة به، لأنه كاذب وفاشل والتجربة معه في أول سنتين من العهد لم تكن إيجابية ومشجعة.
راهن الحريري على عامل الوقت، وأن عون سيتراجع عاجلا أم آجلا، وأن وضعه المحاصر بالأزمة الاقتصادية الخانقة وقوة الدفع الفرنسية والتحوّل في المزاج المسيحي العام والعقوبات الأميركية على جبران باسيل كل ذلك سيدفعه في نهاية المطاف إلى التراجع لإنقاذ ما تبقّى من عهده.. ويبدو أن الحريري أخطأ في تقدير موقف عون وردة فعله، ولم يتوقع أنه لن يغيّر موقفه مهما كلف الأمر ومهما اشتدت الضغوط، ومهما بلغ الانهيار في البلد، وما من قوة أو جهة داخلية أو خارجية تستطيع أن تؤثر عليه وتغيّر موقفه. والخطأ الثاني الذي وقع به الحريري استطرادا يكمن في تقدير موقف حزب الله الذي حاول الحريري تحييده وإنهاء الشق الشيعي من التأليف وفق ما يرتئيه «الثنائي»، لا بل اعتقد الحريري وانتظر أن الحزب سيمارس ضغوطا على حليفه المسيحي (عون وباسيل)، لكن موقف الحزب جاء منحازا إلى عون، وحيث تقول مصادره ان الحزب لا يقبل بأن يخرج عون من هذه الجولة خاسرا أو «مكسورا»، وواهم كل من يعتقد أن الحزب يمكن أن يترك عون أو يفضل الحريري عليه. عون أصعب من تعامل معه الحزب ولكنه أكثر من وثق به، فيما الحريري لم يثبت حتى الآن أنه ثابت وواضح في سياسته ومواقفه ولا يستأهل معاملة مميّزة.. واضح هنا أن المسألة ليست شخصية وإنما هي سياسية بالدرجة الأولى، وأن التطورات الأخيرة من الضغوط الكبيرة على العهد بدءا من ثورة 17 تشرين وصولا إلى العقوبات الأميركية، إلى التحوّل في خطاب بكركي وسياستها، فعلت فعلها في التقريب بين عون ونصرالله وتمتين العلاقة بين التيار والحزب وطمس تصدّعات وتباينات كانت قد برزت وتنامت في الفترة الأخيرة.
في أخطاء التقدير التي وقع فيها الحريري والمفاجآت التي لم يتوقعها ما يتصل بالموقف الفرنسي الذي أراده ضاغطا على عون وباسيل، فإذا به يتحوّل في الأيام الأخيرة إلى «ضاغط عليه».. وما يتصل بموقف وليد جنبلاط المتغيّر من نصح الحريري «بالانسحاب» إلى دعوته تشكيل الحكومة وعدم التوقف عند أمور سخيفة، بما في ذلك حكومة الـ 18.. وحصل هذا التطور في موقفي باريس وجنبلاط بعد توصل الوساطة التي قادها اللواء عباس إبراهيم إلى فتح ثغرة بجدار الأزمة، مع تخلّي عون عن حكومة الـ 20 وزيرا وعن الثلث المعطل وموافقته على حصة له من «5+1» مقابل مطالبته بوزارة الداخلية.. ولكن الحريري تمسك بوزارة الداخلية وتوقفت الأمور هنا لتستقر الكرة في ملعبه.
في الواقع، يواجه الحريري ضغوطا كبيرة، ضغوط الأزمة وعامل الوقت والشارع والرأي العام والموقف العربي والدولي، وأيضا ضغوط خصومه الذين يتحدثون عن عدم قدرته على التأليف، وأن القرار ليس في يده وإنما هو واقع بين خوف من عقوبات أميركية مازالت واردة على مقربين منه، ومن فيتو سعودي مازال قائما ولم يُرفع عنه وعن حكومته الجديدة.. الحريري محاصر بوضع ضاغط يضيّق عليه الخناق ويحشره في الزاوية الصعبة، وقد اقترب من لحظة اتخاذ القرار الصعب والحاسم: إما السير بحكومة لا تعطيه كل ما يريده وترضي عون وحزب الله.. وإما الاعتذار.