كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
قبل التلهّي بالسيناريوهات «الغامضة» و»المفخّخة» من اجل تشكيل الحكومة العتيدة، كان الاهتمام منصّباً على ترجمة معاني «المؤتمر الدولي الخاص بلبنان» برعاية الامم المتحدة، ومدى تفسيره «حياداً» او «تدويلاً» بما انتهى اليه «سبت بكركي»، وتزامناً مع استجداء اهل السلطة دعماً دولياً لمواجهة الاستحقاقات المؤلمة التي قادت اليها خياراتهم، يتسابقون لإدانة التدويل الى حدّ اعتباره «حرباً» و»تنازلاً عن السيادة». فكيف التوفيق بين هذه المعايير؟
قبل ان ينتهي النقاش في مجلس النواب حول آلية تطبيق مشروع قرض البنك الدولي الممنوح للبنان دعماً لـ «شبكة الأمان الإجتماعي» بقيمة 246 مليون دولار، للحؤول دون توسّع شبكة الفقراء، وقبل الإنهيار الكبير، ولمواجهة انعكاسات البطالة التي تمدّدت الى بيوت مئات الآلاف من العائلات اللبنانية، كان البعض من المسؤولين يحذّر مما يستهدف كرامة اللبنانيين وسيادة الدولة على اراضيها. ولم يكتفوا بذلك، فقد تمادوا في التهرّب من مسؤولياتهم على قاعدة التبرؤ من الأخطاء المرتكبة وإلقاء اللوم على الآخرين لتجهيل المسؤول او الجماعة الحقيقية عمّا آل اليه حال الوطن والمواطنين.
والأنكى من كل ذلك، لم يبادر احدٌ من اهل السلطة الى الإعتراف بما اقترفته خياراته السياسية والحكومية، الداخلية منها والخارجية، وهي التي استدرجت الحصار على لبنان وعزّزت القطيعة الديبلوماسية والمالية الغربية والعربية والخليجية منها خصوصاً. فأضافت الأزمة المتمادية اعباء لا تُحتمل على الدولة ومؤسساتها المختلفة، قبل ان تُصاب قطاعات واسعة منها بالشلل نتيجة الإنهيارات المتتالية في القطاعات المالية والمصرفية ومعها الإدارية والخدماتية التي مسّت حياة اللبنانيين اليومية وهدّدت لقمة عيشهم ومصدر رزقهم وقوتهم. وهو ما جعل عدداً كبيراً منهم تائهاً يبحث عن آلية تساوي بينه وبين ما يلقاه النازحون واللاجئون في لبنان، من رعاية اجتماعية وتربوية وطبية دولية وأممية.
وعلى الرغم من حجم المآسي التي تُسجّل يومياً على اكثر من صعيد، فلم يتوصل المسؤولون بعد الى قراءة موحّدة لأسباب ما جرى وتحديد المسؤوليات عن القرارات التي قادت الى عجز الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها الخارجية والداخلية، الى درجة فقدت فيها كل اشكال الرعاية والخدمات، لو لم تمتد الأيادي الإنسانية الدولية والاممية الى مساعدة من نُكبوا بتفجير مرفأ بيروت، ومن تأثروا بفقدان العملة الوطنية قيمتها الشرائية، ومن طاولتهم جائحة الكورونا، من دون العبور بالدولة ومؤسساتها. لا بل فقد شملها العزل الدولي، الى درجة لا يمكن ان يحتملها صاحب ضمير مسؤول كان مكلّفاً إدارتها، قبل تصنيفها في أدنى المراتب قياساً على حجم الفساد والفشل في إدارة القطاعات الحيوية في القرن الـ21.
وبمعزل عن أي جردة يمكن ان تطاول هذا القطاع أو ذاك، فقد بات ثابتاً انّ كل المواقف السياسية والحكومية المتدحرجة ستؤدي الى مزيد من الانهيار وعلى كل الصعد السياسية والحكومية والاقتصادية والاجتماعية. ومرد ذلك الى سياسة المكابرة التي وسمت المواقف بما تنضح به من عنجهية غير مسبوقة تتجاوز قدرة اللبنانيين على تحمّل مزيد مما هو متوقع من أزمات. وبدلاً من تواضع البعض والإعتراف بالمؤشرات الخطيرة وما يمكن ان تقود اليه مواقفه، يهوى المضي في موجة الإتهامات المتبادلة بالعمالة والرضوخ للسياسات الخارجية والمخططات التي تزيد من حجم التدهور القائم.
والأخطر من كل ذلك انّ البعض إمتهن على خلفيته «الديماغوجية» مهمة تكبير حجم الأعداء فلم يعد يرضى بخصوم محليين، مدّعياً انّه يخوض المواجهة مع المحاور الكبرى لتعطيل مؤامرات دولية مشكوك بوجودها وصدقية مراميها، ما يستدعي كثيراً من الإستغراب بما يجول في عقله الباطني تجاه مجموعات ودول وعواصم كبرى يستجدي منها الدعم المالي والاقتصادي والإنساني والاجتماعي كل يوم ويسعى الى تشويه صورتها، بما يفيض من عبارات الهجاء التي يتقنها السياسيون في لبنان.
وعليه، ومن دون مزيد من التفاصيل التي لا يتسع لها مقال، تتوقف المراجع العليمة امام تردّد البعض من المساهمة في خوض غمار المبادرة التي اطلقها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، متجاوزاً كثيراً مما يشهده الداخل من نزاعات تُبعد الحلول المرجوة لمشاكل الوطن الصغير. ومن اجل إنقاذ لبنان من براثن الأزمة التي يعيشها، مستطلعاً الآفاق الدولية التي يمكن ان تخفف عن لبنان مخاطر الزجّ به في محور دولي من المحاور المتنازعة، الى درجة يمكن ان يدفع اللبنانيون أثماناً باهظة نتيجة فشلهم في إدارة امورهم الداخلية ووقف الإنزلاق الى النزاعات الاقليمية والدولية بغية تحقيق مكاسب آنية ومؤقتة لا تفي بحاجة اللبنانيين الى حلول مستدامة وبعيدة المدى، توفّر المناعة الكافية لبقائه دولة موحّدة ووطناً لجميع ابنائه.
ولذلك، فإنّ التعاطي مع مبادرة الراعي على خلفية رفضها، عدا عن كيل الإتهامات الكبيرة التي لا تتناسب ومراميها، كما شرحها البطريرك اكثر من مرة، فهي تجافي كثيراً من الحقائق، ولا يمكن تجاهلها الى الحدّ الذي يمكن تجاوزها، قبل ان تقدّم السلطة التي تعاندها، البديل الممكن والواقعي المؤدي الى فك أسر الجمهورية اللبنانية وتوفير حكومة تحاكي المجتمعين الداخلي والدولي بما هو مطلوب من مسارات إصلاحية محدّدة سلفاً، ولا يمكن تأجيلها، على طريق البحث عن وسائل التعافي التي ينتظرها اللبنانيون المتفائلون بإمكان تنفيذها اليوم قبل الغد، منعاً لسقوط البلاد في ازمة لا يمكن توقّع نتائجها من اليوم.
وقبل البحث في المواقف المتناقضة من مبادرة بكركي، تجدر الإشارة الى انّ اللبنانيين، ومنهم المعارضون للمبادرة البطريركية نحو الحياد لأسباب آنية ومصلحية مؤقتة، بعدما تراجعوا تكتياً عن مساندتها، يدركون انّ فشل اللبنانيين في إدارة ملفاتهم الداخلية وتعثر مشاريع إبعاد لبنان عن لعبة الامم الخطيرة، لم يجدوا حلاً لمعضلة دون معونة ومساعدة دولية منذ الاستقلال الى اليوم، وانّ طالبي الدعم الدولي اليوم لمواجهة فقر اللبنانيين «بشروط الشحادين المشارطين» وتجاوز أزماتهم الخانقة، لا يمكنهم التغريد بعيداً من المجتمع الدولي، وهو ما سيكرّس انتقالاً غير مفهوم النتائج بين الانهيار المنتظر وإمكان النفاذ في وقت قريب الى مرحلة التعافي.
وأخيراً، يطرح السؤال: من سيقود هذه المسيرة، وهل هو من بين اهل السلطة في البلاد؟ وهل يمكن لمن يتمنّى الدعم الدولي والأممي لالف سبب وسبب ان يجاهر بعدم الحاجة الى من يعين اللبنانيين في مواجهة ازماتهم؟ وان بقي المعاندون يسيئون التعاطي مع المجتمع الدولي وعدم التجاوب مع ابسط مطالبه، ليس لإنقاذ بلدانهم بل لإنقاذ لبنان، فما الذي سيجنونه؟ ذلك انّ معادلة طلب الدعم الدولي ورفض الحياد او التدويل، ستبقى النظرية الأكثر استغراباً واستهجاناً؟