تسلسل الحوادث في الأيام والساعات الأخيرة يشي بما لا يقبل أي شك أن لبنان يتّجه إلى الغرق في حال من الفوضى الغوغائية التي لن ينجو منها أحد.
هذه الفوضى هي نتيجة مسؤوليات على أكثر من مستوى ويتحمل مسؤوليتها أكثر من طرف، كل لمصالحه الخاصة، في حين يدفع الشعب اللبناني الفاتورة من لقمة عيشه وأمنه واستقراره، كما يدفع لبنان الدولة والصيغة كلفة باهظة قد تتحول كارثية.
ومن يراقب التحركات في الشارع، أو ربما التحركات في الشوارع اللبنانية، يتيقن أن أكثر من طابور خامس يقف وراءها، وجميعهم يستغلّ وجع اللبنانيين وجوعهم وفقرهم. ويبقى “حزب الله” المحرّك الأول والأكبر لما يجري، وخصوصاً أنه يسخّر الساحة اللبنانية خدمة للمصالح الإيرانية وبالتناغم مع ما يجري إقليمياً على خط المفاوضات بين طهران وواشنطن.
وإذا كان من قدرة للثوار أن يتحركوا في أكثر من منطقة لبنان ويقفلوا الطرقات، فإن مناطق “حزب الله” وخصوصاً في معقله في الضاحية الجنوبية لا يمكن أن تشهد أي تحرّك من دون إعطاء الحزب إشارة الانطلاق، لا بل قيادة تفاصيل أي تحرّك، وخصوصاً عندما تجتمع مئات الدراجات النارية لتعلن الذهاب إلى قصر بعبدا للتهجّم على رئيس الجمهورية. كما أن تأكيد “قطاع الطرق” في معاقل الحزب للإعلام علناً أنهم ليسوا ثوارا وأنهم حزبيون، إنما يتضمّن إصراراً على إعلان هوية من يحرّك الشارع لإيصال الرسائل اللازمة.
وبالتالي فإن ما يجري تجاوز منطق الثورة وشعار “كلن يعني كلن”، إلى منطق أجندة “حزب الله” والثنائي الشيعي ككل من أجل تحقيق أهداف عدة في هذه المرحلة الانتقالية. ومن هذه الأهداف طبعا توجيه رسائل الى البطريرك الماروني قبيل زيارة وفد الحزب الثلثاء الى بكركي، كما أيضاً والأهم العمل على الإمساك بالشارع بيد من حديد ونار وإنهاء كل مظاهر الثورة في مناطق نفوذ “الثنائي”، لمنع أي تمدد للثورة أو ربما استغلالها مع تدهور الأوضاع المالية والاقتصادية بشكل كارثي في الأيام والأسابيع المقبلة، بما يمنع أي محاولة للتحريض على تحكم الثنائي الشيعي بساحته.
ولكن الرسائل لا تقتصر على ما سبق، بل تتعداها للتأكيد لمن يعنيهم الأمر سواء لدى فريق حليف الحزب رئيس الجمهورية أو حتى لدى فريق الرئيس المكلف أن موعد تشكيل الحكومة وشكلها يحددها من يمسك بالشارع ويستطيع الإطاحة بكل شيء وهدم الهيكل على رؤوس الجميع.
في المقابل يبدو أن ثمة إدراكاً مسيحياً لمخططات الحزب، الأمر الذي حتّم تأمين حدّ أدنى من التوازن بين الشارعين، عبر محاولة الإمساك بالشارع المسيحي لإعلاء الخطاب المقابل لخطاب الحزب، عبر رفض أي تطاول على البطريرك الماروني من جهة وعبر التأكيد على المطالب السيادية للثورة من جهة أخرى وفي طليعتها رفض سلاح الحزب وجرّ لبنان الى المحور الإيراني.
هكذا يدخل لبنان مرحلة من “الفوضى الجهنمية” يهيمن عليها انفلات الأوضاع المالية والتفلّت الهائل لسعر صرف الليرة اللبنانية، ما يجعل من المواجهات الإقليمية في الخارج، والسياسية في لبنان تحتدم على نمط ما يجري في الشارع الذي قد تبدو الأجهزة الأمنية اللبنانية عاجزة عن ضبطه في المرحلة المقبلة.
وهكذا يبدو أن الشعب اللبناني سيعاني الأمرّين في المرحلة المقبلة بين الانهيار الجنوني على المستويات كافة، وبين العودة إلى منطق القلق الأمني الذي سيجعل لبنان يغرق إلى ما بعد قعر جهنم!