لا يتردد حزب الله ولا مناصروه للحظةٍ واحدةٍ عن تذكير اللبنانيين عمومًا والمسيحيين خصوصًا بأنّه لولا قتالهم في سوريا لكانت داعش وصلت إلى مدينة “جونيه” ولكانت سبت نساء المسيحيين وهتكت أعراضهم!
يمكننا أن نفهم أبعاد هذا الكلام وأهدافه عندما يصدر عن أحد أبواق هذا الحزب، فالحزب لا يخجل بمشروعه ولا بالطرق الملتوية التي يعتمدها لتسميم الوعي الجماعي اللبناني، لكنّ المفارقة الكبيرة هي عندما يصدر مثل هذا الكلام عن شخصياتٍ وأحزابٍ “مسيحيّة” تَدَّعي تحصيل حقوق المسيحيين وصون كرامتهم.
والحال فإن مثل هذه الشخصيات والأحزاب تستعمل هذا الخطاب لتبرير انغماسها العميق في ما يسمّى “حلف الأقلّيات”، غير أن لجوء من يدّعي “المسيحيّة السياسية” أو “المشرقية” إلى هكذا تحالف، يطرح العديد من علامات الإستفهام والتعجُّب، لا وبل يطرح عدّة اشكاليّات أخلاقية خطيرة على مستوى الحضور والدور المسيحي في لبنان والشرق.
فمجرد استعمال عبارة “حلف الأقلّيات” يطرح السؤال التالي : حِلفٌ بوجه من؟
لتأتي الممارسة السياسية والعسكرية والخلفية العقائديّة لمحور المقاومة وتجيبنا على هذا السؤال : “إنَّه حلفٌ بوجهِ أهلِ السنّة”! فكيف لمن يدَّعي المسيحية أن يقاتل في صفوف هكذا محور؟ وكيف لمن يدَّعي الحرص على “لبنان الرسالة” أن ينسف الرسالة من خلال “موضعة” المسيحيين في خندقٍ معادٍ لمحيطهم الحيوي الكبير ألا وهو العالم العربيّ والمحيط السنّي الكبير؟
أيضًا على المستوى الأخلاقي : كيف يقبل بعض المسيحيون أن يكون ثمن “حمايتهم المزعومة” هو المجازر التي حصلت بحقّ الشعب السوري الأعزل من إباداتٍ بالأسلحة الكيميائية كما حصل في الغوطة، إلى التجويع الممنهج كما حصل في مضايا، إلى القصف “البراميلي” الذي دمَّر مدن سوريا الكبرى وهجَّر أهلها وناسها، لتستبدلهم ايران وأذرعها بالعديد من مقاتلي الميليشيات الشيعية من غير العرب، بهدف تبديل ديمغرافية المنطقة ولبناء جسرٍ بشريٍّ من الأقليّات يمتدّ من إيران ليصل شواطىء المتوسط.
ثمّ بعد، فمن الحماقة في السياسة أن يبادر بعض السياسيين من المسيحيين إلى اقناع جمهورهم بإن قتال الحزب في سوريا هو لحماية المسيحيين ومقاماتهم، هكذا مقاربات تحمل نظرةً بلهاء وقصر نظر وانعدامًا في الرؤيا، فالحزب يقاتل لأجنداته الخاصة المكتوبة في ايران ولا اعتبار عنده للمسيحيين إلا بقدر تأمينهم للغطاء والذريعة لجرائمه المتمادية.
أيضًا فإن مجرد الكلام عن وصول داعش وأخواتها إلى “جونيه” لهو طعنة قاسية في ظهر الجيش اللبناني، الذي يُظهِرهُ هذا الكلام بموقع العاجز والغير قادر على حماية الحدود اللبنانية من بضع مئات من المقاتلين الذي حاصرهم حزب ولاية الفقيه على الحدود اللبنانية عن سابق تصورٍ وتصميم لإرهاب اللبنانيين ولإظهار نفسه بموقع المدافع عن تراب الوطن.
أيضًا وأيضًا فإن هذه التصريحات تُعتَبر إهانة بحقِّ المسيحيين الذين قاوموا خلال عقود وقرون شتّى أنواع الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية، وهم ككل الناس لا يتورّعون عن الدفاع عن أنفسهم في حال وجدوا أنفسهم في موقع المعتَدى عليه، فكيف لحفنةٍ من مقاتلي داعش وأخواتها أن يعبروا حدود المناطق التي تسكنها أغلبية مسيحيّة أن تصل إلى جونيه؟ يبدو أن من يطلق هكذا تصريحات لا يفقه كلمة واحدة من تاريخ الحرب اللبنانية ولا يعرف حرفًا واحدًا من أبجدية الموارنة ولا من أبجدية المقاومة في البلدات والقرى المارونية! ولعل أخطر نتائج هذه التصريحات هي اقناع بعض ضعفاء النفوس وقليلي الإيمان من المسيحيين بأنهم لقمة سائغة لأي تنظيم، وبأن مجتمعهم لا يملك الحدّ الأدنى من عناصر الدفاع عن النفس، وهو بالتالي كالطفل القاصر في حاجته إلى من يكفله ويدافع عنه…
والأدهى في هذا الإطار أن بعض السياسيين المسيحيين لم يجدوا ما يهاجموا به شخص البطريرك الماروني بعد لاءاته الشهيرة وموقفه الصلب من الفساد والسلاح الغير الشرعي يوم 27 شباط التاريخي سوى استعادة هذه النغمة الممجوجة والشاذة والغريبة عن قناعات المسيحيين وسلوكهم التاريخي!
لا يسعنا في هذا الإطار سوى التذكير بأن مصلحة المسيحيين في لبنان هي نفسها مصلحة المواطن التي تتحقق بدولة المواطنة، مصلحة المسيحيين هي في الإنفتاح والشراكة الحقيقية بينهم وبين اخوتهم في الوطن! مصلحة المسيحيين هي في الشرعية اللبنانية والعربية والدولية، سيما وانهم لعبوا الدور الكبير في انشاء جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، بالإضافة إلى اسهامهم الكبير في شرعة حقوق الإنسان!
تأتي الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس الأول إلى العرق ولقاءه آية الله السيد علي السيستاني في النجف الشريف، والموقف المتقدم لرئيس الجمهورية العراقية السيد برهم صالح لتُعَمّق القبر لنظريّة “حلف الأقليّات” فهل يتعّظ من يدّعي حماية المسيحيين في لبنان وتحصيل حقوقهم، من التجربة العراقية قبل فوات الآوان أو أنهم لن يتَّعظوا قبل أن يختبروا مصير المسيحيين في العراق وسوريا؟
لو قُيِّضَ للمسيحية التاريخية أن تنطق بعض الكلام في هذه الأيام البائسة لما قالت سوى: لو أصبح وجودي في هذا الشرق مرهونًا بمشيئة الأنظمة الشمولية الطائفية الإرهابية، لفضّلت الموت و”حَدّ السكّين” لرقاب المسيحيين على شهادة الزور باسم المسيح والمسيحية!