كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
طوّق «حزب الله» الرئيس المكلف سعد الحريري من خمس جهات سياسية من أجل دفعه إلى تأليف الحكومة، وهو على اقتناع بأنه لن يعتذر، فوضع الكرة في ملعبه، فهل يعتذر خلافاً للتوقعات وصولا إلى الاستقالة من مجلس النواب؟
أطلق «حزب الله» منذ 27 شباط، اي محطة إعلان البطريرك بشارة الراعي مبادرته إلى عقد مؤتمر دولي، العد العكسي لتأليف الحكومة، لأنه لمس إمكانية تجاوب المجتمع الدولي مع هذه المبادرة في حال تواصل التأزُّم المالي والسياسي وصولا إلى الانفجار، وابتداء من هذه المحطة بدأت الأحداث السياسية تتوالى، والتي يمكن اختصارها بخمس حتى اللحظة:
ـ الحدث الأوّل: موافقة رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط على توسيع الحكومة وضمّ درزي ثاني الى الفريق الدرزي المناوئ له، وهذه الموافقة لم تحصل فقط بسبب استشعاره خطورة الأوضاع، فهذا في ظاهر الأمور، ولكن في باطنها حصلت بالتأكيد نتيجة تجاوبه مع تمني حليفه الرئيس نبيه بري بطلب من «حزب الله» طبعا.
وقد أضعف الموقف الجنبلاطي المستجد موقف الحريري المتمسِّك بحكومة «من 18 وزيرا ونقطة على السطر»، لأن قوة موقفه كانت تستند إلى حاجة حكومته، كما الثنائي الشيعي، إلى الغطاء الجنبلاطي، الأمر الذي سقط تلقائياً مع موافقة جنبلاط على توسيع الحكومة.
ـ الحدث الثاني: موافقة الرئيس ميشال عون المفاجئة على خمسة وزراء زائد وزير لحزب الطاشناق، متخلياً عن الوزير السابع بعد أكثر من أربعة أشهر لم ينجح خلالها الحريري في دفع عون إلى التراجع عن الثلث المعطِّل، ولكن بقوة قادر، اي «حزب الله»، تخلى عن هذا الثلث تجاوباً مع مبادرة السيد حسن نصرالله المزدوجة: يتخلى رئيس الجمهورية عن الثلث، ويتخلى الرئيس المكلّف عن حكومة الـ18، ومع تخلي عون عن الثلث تُصبح الكرة في ملعب الحريري.
ـ الحدث الثالث: تحليق الدولار بنحو مفاجئ متخطيا العشرة آلاف ليرة، وقد تزامن هذا الارتفاع للدولار مع موافقة جنبلاط على عدم احتكار التمثيل الدرزي، وتخلي عون عن الثلث المعطِّل، وإذا كان استمرار الفراغ سيقود حكما إلى هذا الارتفاع، إلا ان توقيته جاء ليؤكد وجود توجُّه واضح الى دفع الأمور نحو التأليف، ما يعني أنه محرّك وغير عفوي.
ـ الحدث الرابع: تمثّل في عودة التحركات الشعبية فجأة، وعلى رغم من ان التحركات متوقعة في ظل الانسداد في الأفق السياسي وغياب الحلول، وتنامي مخاوف الناس على وضعها ومصيرها، إلا ان هناك من أشعل هذه التحركات وتركها تتفاعل طبيعياً تحقيقاً لأهدافه، لأن التأليف لن يحصل على البارد، بل يستدعي تسخين الشارع وصولا، ربما، إلى تطورات مؤسفة.
ـ الحدث الخامس: جاء على لسان رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب الذي أعلن، ومن دون سابق إنذار وخلافاً لدوره الدستوري ومسؤولياته الوطنية، انه في حال لم تتألّف الحكومة سريعاً فإنه يتجه إلى الاعتكاف، ولم يكن دياب في وارد اتخاذ هذا الموقف لو لم يطلب منه «حزب الله» ذلك، فهو كان قد رفض سابقاً ليس فقط تعويم الحكومة، إنما مجرّد عقد جلسة لدرس الموازنة او غيرها، لأنه لا يريد ان يستفزّ الشارع السني، ويسعى للانضمام إلى نادي رؤساء الحكومات بعد مغادرته السرايا، خصوصاً انّ زيارة الحريري التضامنية معه عندما ادعى عليه القاضي فادي صوان شجعته على هذا التوجه.
وإعلان دياب عزمه على الاعتكاف لا يخدم الحريري إطلاقا، بل يضاعف الضغوط عليه، لأن اي خطوة من هذا النوع تعني تحميل تبعات الانهيار للرئيس المكلف، وبالتالي الهدف من وراء كل هذا الضغط عليه ودفعه الى مغادرة مربع التردُّد والإقدام على تشكيل الحكومة.
فكل ما تقدّم من أحداث حصل في أقل من أسبوع، ولم يحصل بالمصادفة طبعا، إنما جاء ترجمة لقرار التأليف الذي اتخذه «حزب الله» بعد مشهد بكركي، حيث أيقن انّ استمرار الفراغ وتواصل الانهيار وتوسُّع الانقسام سيقود حتما إلى التجاوب الدولي مع مبادرة البطريرك تلافياً لانزلاق لبنان نحو الانفجار، الأمر الذي يقود إلى فصل لبنان عن إيران، هذا الفصل المستبعد حصوله في حال تألفت الحكومة وحافظ لبنان على استقراره، لأنّ المجتمع الدولي «بَدو همّ بالناقص»، ولن يستنفر وهو الغارق في أزماته سوى في حالة واحدة وهي الانفجار بسبب انعكاساته وتردداته، فيما تشكيل الحكومة ينقل اهتمامه من المؤتمر الدولي إلى منح فرصة للحكومة العتيدة، فيستعيد الخط الفرنسي-المصري زخمه من أجل إنجاح الحكومة، وينتقل تركيز الداخل والخارج إلى الحيّز الحكومي لا الدولي.
وإذا صحّ ان الهدف من كل هذه الأحداث هو الضغط على الحريري ومحاصرته من أجل دفعه إلى تجاوز اعتراضاته والوصول إلى تسوية مع عون، فإنّ الرئيس المكلف بات محاصراً فعلا من ثلاث زوايا أساسية: سياسية بالتنازلات التي حصلت، مالية مع ارتفاع الدولار، وشعبية مع عودة التحركات الاحتجاجية وتقطيعها أوصال البلد، والأمور تتجه إلى مزيد من التصعيد الذي قد يصل إلى حدود الانفجار الجزئي من أجل دفع الحريري إلى التشكيل او الاعتذار، لأنه لا يمكنه ان يتحمّل مواكبة التدهور من مربّع الانتظار، خصوصاً ان هناك من يقول له ان عون سبقه الى التراجع والتنازل وان عليه ملاقاته.
وفي موازاة هذا السيناريو الذي يرجِّح ان يكون سقف كل التطورات المتلاحقة والمتسارعة منذ أسبوع الوصول إلى حكومة، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه يكمن في التالي: هل من ضابط إيقاع ومحرِّك لكل هذه الأحداث والتطورات؟ وهل من مصلحة هذا المحرِّك، وهو لاعب أساسي، ان تفلت الأمور في اتجاه الفوضى الشاملة؟ وهل يمكن ان تفلت الأمور أساسا من تحت سيطرته؟ وهل من سيناريو آخر يعمل عليه غير الوصول إلى الحكومة بمعنى انتخاب رئيس جمهورية جديد وفق التوازنات الحالية؟ وهل الفوضى من مصلحته، ولماذا؟
ولا شك ان الأيام القليلة المقبلة كفيلة بتقديم أجوبة عن بعض التساؤلات أعلاه، وتحديدا لجهة سقف هذه المرحلة، فهل هو سقف حكومي ام رئاسي أم فتح لبنان على الفوضى؟ وعلى رغم من كل الترجيحات التي تؤشّر بأنّ الرئيس المكلف سيتوصل إلى تسوية تؤدي إلى تشكيل حكومة مهمتها الوحيدة شراء الوقت من أجل إبقاء لبنان في غرفة انتظار التطورات على خط واشنطن- طهران، ولكن ماذا لو قرر الحريري مثلا الاعتذار والاستقالة من مجلس النواب، والكلام هنا عن كتلة يفقد معها المجلس ميثاقيته السنية، فهل خطوة من هذا النوع واردة؟ وألا يشكل حصولها تغييراً لكل مسار الأمور والأولويات التي تتحول من حكومية إلى انتخابية، كونها ستفرض الانتخابات المبكرة، واستقالة من هذا النوع ستدفع «القوات اللبنانية» التي تشكل رأس حربة في هذا الاتجاه إلى الاستقالة، وقد تنتقل العدوى إلى «الحزب التقدمي الاشتراكي»؟ فهل الحريري في هذا الوارد؟ ولماذا لا يقلب الطاولة على من أوحى له أن التأليف سيكون مسهلاً كشربة المياه وانه سيتكفّل بالضغط على العهد؟ وما المحاذير لديه من خطوة من هذا النوع؟ وهل يكتفي مثلا بالاعتذار من دون الاستقالة تجنّباً لقطع الخيط الرفيع مع الثنائي الشيعي؟
وفي مطلق الحالات، كل المؤشرات تدلّ، وحتى إثبات العكس، الى ان كل الهدف من التحريك المثلث: السياسي، المالي والشعبي، دفع الأمور نحو تشكيل حكومة، لأن التأليف لم يحصل على البارد، والبلاد لم تعد تنتظر في ظل مبادرة تدويلية تشكل خطرا على الفريق الحاكم وامتداداته الخارجية، فاتُخذ القرار لإتمام التأليف على الساخن الجزئي الذي يشكل مبررا للتنازلات التي حصلت وستحصل، وبالتالي السقف السياسي لكل ما يحصل هو حكومي بامتياز سوى في حالة واحدة وهي ان يعتذر الحريري ويستقيل من مجلس النواب فتدخل البلاد في دينامية جديدة، ولكن لا يبدو، حتى إشعار آخر، انه في وارد الاعتذار ولا الاستقالة طبعاً، إنما التأليف على الأرجح.