كتب ألان سركيس في “نداء الوطن”:
خلع قائد الجيش العماد جوزف عون كل كفوف الدبلوماسيّة والبروتوكولات التي يكرهها، وتحدّث بلغة مهنته وهي لغة العسكر، مسمّياً الأمور بأسمائها وساحباً “البساط” من تحت أقدام الطبقة السياسية، ومعلناً الوقوف في صفّ الشعب وليس السلطة.
بعد تعيين جوزف عون قائداً للجيش، كانت لنا زيارة إلى مراكز الجيش المتقدّمة في عرسال ورأس بعلبك والقاع والتي كانت تواجه “داعش” وأخواته في ربيع 2017، يومها قال لنا إبن رأس بعلبك رئيس أبرشية بعلبك للروم الكاثوليك المطران الياس رحّال: “إقتربت نهاية داعش هنا، فأنا أعرف جوزف عون، وقد زارنا، فهو رجل عسكري بامتياز ولا يساوم من أجل مناصب سياسية، وبالتالي فإن الأيام والأسابيع المقبلة ستكشف ذلك، ونتمنّى ألّا يُعرقله أهل السياسة”.
وبالفعل، ما هي إلا أشهر حتى اندحر “داعش” من السلسلة الشرقية بعد معركة “فجر الجرود”، لكن ذلك القائد لم يكن يعرف أنه ستمرّ على لبنان أيام أصعب من مواجهة الإرهاب، لذلك كانت الذكرى الرابعة لتعيينه قائداً للجيش أمس مناسبة لقول الحقيقة كما هي، ودقّ جرس الإنذار والتنبيه على كل الأخطار.
وفي المعلومات أن العماد جوزف عون تريّث كثيراً قبل الإطلالة، وهو المعروف عنه بُعده عن الإعلام والعراضات و”البروباغندا”، لكنّ القصة لم تعد تتعلّق بشخصه أو بالقيادة العسكرية، بل باتت تضرب وطناً بأسره، وإذا كان الثوّار أطلقوا على تحرّكهم إثنين الغضب، فإن قائد الجيش كان خلال لقائه القيادة العسكرية والضباط يُجسّد “الغضب الساطع”.
والجدير ذكره، أنها المرّة الثانية خلال السنوات الأربع لتبوّئه قيادة الجيش التي يخرج فيها العماد عون بخطاب عالي النبرة يتناول مواضيع سياسية، فهو كان قد أطلق إنذاراً في الأول من حزيران 2019 خلال زيارته متحف الرئيس فؤاد شهاب، متحدثاً عن استهداف المؤسسة العسكرية وتطويقها بالموازنات والإستهدافات السياسية، رافضاً الفصل بين الشعب والجيش، ولافتاً إلى خطورة الوضع.
ولو لم “يبلغ السيل الزبى”، لما كان قائد الجيش ليتحدّث للمرة الثانية بهذه اللهجة العالية النبرة، فهو كان يجتمع مع كبار المسؤولين، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة إلى بقية أهل الحكم، ويقول لهم إن الوضع لا يُطمئن، ويجب معالجة الشوائب، فكفاكم إستهدافاً للمؤسسة العسكرية وبقية مؤسسات الدولة، والأهم من كل هذا تحذيره المسؤولين من ثورة جياع، ولكن كان عدم مبالاة الحكّام هو العلامة الغالبة والنتيجة لتلك التحذيرات.
واللافت أن قائد الجيش توجّه إلى السياسيين بشكل مباشر بعد المعاناة معهم، محمّلاً إياهم مسؤولية الأزمة التي تضرب البلاد والمؤسسة العسكرية، وتأتي هذه المواقف بعد الضغط الذي يُمارس على قيادة الجيش من الشعب، من الناس أجمعين ولا سيما الفقراء البائسين أولاً، والمطالبة بفعل شيء ما لإنقاذهم، ومن السلطة السياسية التي تريد من الجيش تخويف الناس ولجمهم ومنعهم من التظاهر.
وإذا كانت كلمة قائد الجيش أتت في الذكرى الرابعة لترؤسه المؤسسة العسكرية، إلا أنها تزامنت مع إثنين الغضب أولاً، ونُشرت بعد وقت قليل على إجتماع بعبدا الأمني والإقتصادي الذي طالب بفتح الطرق وبقمع الناس بشكل مبطّن، فأتى الردّ سريعاً من العماد عون بأن الجيش لن يكون أداة لقمع شعبه ولن يمتثل لأوامر غير عادلة ولا توصل لأي مكان، فهو لا يزال يُطبّق أوامر السلطة السياسية لكنه يتعاطى وفق “ميزان الجوهرجي”، خصوصاً وأن الجيش يعاني مثله مثل الشعب، ولا تستطيع أن تقول لعسكري جائع أهجم على مواطن جائع يُطالب بحقه وبحقك.
لا شكّ أن السلطة السياسية ستعيش في مأزق بعد كلام قائد الجيش الذي أفهمها “بالعربي المشبرح” أنه ليس أداة قمعية في يدها، ما يعيد خلط حسابات هذه القوى والأحزاب التي قد تتكل على “قواها الذاتية” من أجل مهاجمة الناس والتصدّي لهم، لكن الجيش قال بصريح العبارة إنه لن يسمح بوقوع فتنة وهزّ الإستقرار، ما يعني أنه سيفعل كل ما بوسعه لحماية الثوّار السلميين الذين نظروا بإيجابية بالغة إلى هذا الموقف النوعي الذي يلاقي ثورتهم. وضع قائد الجيش الإصبع على الجرح وتحدّث عن معاناة الناس والجيش والخوف على الكيان، وانتقد تصرفات بعض السياسيين المعروفين الذين من أجل الوصول إلى الكراسي يحاولون التدخل في شؤون الجيش وشجونه، وقد كانت تجربة وزير الدفاع السابق الياس بوصعب بأمر من النائب جبران باسيل أكبر دليل على محاولة باسيل تطويق قائد الجيش وذلك لحسابات رئاسية، لكن جوزف عون خرج منتصراً من هذه التجربة.
لم يقصد قائد الجيش باسيل وحده، بل كل السياسيين وأهل السلطة الذين تولوا الحكم، والأحزاب المعروفة التي شنت حملات تشويه لضرب صورة قيادة الجيش ومعها الدولة، خصوصاً أن العماد عون يؤكد أنه لا يخوض معارك السلطة، بل هدفه حماية الجيش والمواطنين، لذلك فإنه يرفض الدخول في سجالات سياسية مع سياسيين أوصلوا البلد إلى الإنفجار.
بات قائد الجيش يُعدّ من صفوف الشعب والمتمردين على الظلم أينما حلّ، وقد فتح الطريق واسعاً أمام الناس للمطالبة بحقوقها ضمن سقف حماية الإستقرار، وأسقط عامل الخوف والتحجّج بأن “الجيش ما عم يخلينا” ولن يُقدم على فتح الطرق بالقوّة، لكن هل فهم الناس هذه الرسالة؟ وهل سيأخذ المسؤولون كلام قائد الجيش في الإعتبار، خصوصاً وأن الآتي أعظم؟