IMLebanon

قراءة في مواقف البطريركية المارونية

كتب النائب السابق جواد بولس في “نداء الوطن”:

“إن أتاك شخصان يقول أحدهما إن السماء تُمطر وآخر إنها لا تفعل، فالعدل لا يكون بافتراض الحق في الرأيين بل أن تفتح النافذة اللعينة وترى إن كانت السماء ممطرةً أم صافية!” (مثل إسباني)

وهكذا… قام البطريرك الماروني بشارة الراعي وفتَح النافذة! حسمها في مغادرة المنطقة التي يتساوى فيها الخطأ بالصواب على قاعدة العدل بين خصمين! العدل في ما أنبأت به حقيقة النافذة، هناك نظر الراعي فرأى ولم ينصر رأيأ على رأي بل انتصر للبنان. وكنوحٍ قبل الطوفان بلّغ بضرورة حمل الفُلك إلى الأصدقاء الدوليين وذلك “لأن كل الطروحات رُفضت حتى تسقط الدولة ويتم الإستيلاء على مقاليد السلطة!”.

يسجّل لسيد بكركي أنه أعاد اليوم وقبل الطوفان الكنيسةَ إلى ثوابتها التاريخية الموجبة بحماية الكيان اللبناني وخصوصيته الحضارية والثقافية ورفض كل أشكال الحكم الشمولي فيه والسعي الدائم إلى حكم مبني على حسن الإدارة وسيادة القانون وصون الحريات. هناك في صرح بكركي نودي مجدداً، كقدر محتوم بضرورة التكرار، بأن لبنان هذا آن له أن يكون دولة مركزية لا ترسو سفنها على شطآنٍ متحاربة. دولة تريد حياداً يحميها ولا تهون أمام معتدٍ بل إن أبناءها مطالبون بأن “لا يسكتوا عن خرق اجوائنا”. دولة تتمسك بدستورها الذي كلّف حرباً ودماء، وبجيشها كدرعٍ وحيد وهو يتظلل علم لبنان وليس علم الغريب.

قبل أربعة وثلاثين عاماً نشرت جريدة النهار خبراً لا يزال يتردد وقعه في لبنان كل صباح حتى بلغ المشروع مداه. في مؤتمر طالبي يحاضر صوتٌ لبناني إيراني الارتباط قائلاً: “إن أي تحرك أو موقف لا يأخذ بالاعتبار مركزية الثورة الإسلامية الإيرانية ومصلحتها يكون مشبوهاً وأحياناً قد يكون خائناً” (جريدة النهار 17 آب 1987). والتخوين هذا سيطلّ برأسه في كل مرة صدر صوتٌ يريد مصلحة الدولة. على هذا النحو قابل دعوة بكركي إلى الحياد بيانٌ قرأه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان عن محورٍ كامل يهون في أدبياته التخوين حيث رأى البيان أن”الحياد في زمن الاحتلال الإسرائيلي وداعش ليس وطنياً، بل أعتقد أنه ما زال خيانة”. ثمة مركزيتان إذاً تعيشان جنباً إلى جنب في لبنان. مركزية الثورة الإسلامية، ومركزية الدولة اللبنانية قد تحوّلت سراباً. وبين هاتين المركزيتين تجرأ الراعي وأطل من النافذة.

ابتعدت الكنيسة برهة من الزمن عن التمسك بالثوابت، عندما سعت خلال عقد من الزمن إلى التناغم مع الطرح القائل بتبني البراغماتية في التعامل مع طروحات هي أبعد ما يكون عن جوهر قيام لبنان وبقائه. ظنّت الكنيسة أن محاولتها تلك يبررها صون السلم الأهلي فضاعت في التفاصيل وهجرت الاساس. حصل ذلك مثلاً لا حصراً عند استحقاق الانتخابات الرئاسية. حينها تمنّعت الكنيسة عن تحديد المبادئ المفترض توافرها في المرشح ليحملها معه إلى سدة الرئاسة بل فاضلت بين المرشحين على اسس شعبوية أو وعود رنانة كانت تشي بعكسها التزاماتُ المرشحين المعروفة. ولعلّ المفارقة الحقّة أن التزام الكنيسة معيار التمثيل الشعبي للمرشح الرئاسي هو ما سمح للشعبوية بأن تأخذ مداها، فغاب من لا يمثلون الشعب ولا عليه وهم بذلك لربما كانوا خير من يمثل الشعب وما يريده.

عاد الصرح إلى الصرح، وقف أمام الناس وكأنه منهم، كبيرهم وخادمهم في آن، ليؤكد المؤكد وهو أن لا يمكن بناء وطن أو دولة أو مؤسسات أو اقتصاد أو نظام في ظل ميليشيات مسلحة مرتبطة بالخارج وخاضعة له عقائدياً، سياسياً، اقتصادياً وحتى في أصغر أدبياتها. جماعةٌ معقودة الارتباط لفكرة لخّصها الإمام االخميني بعد قبول طهران القرار 598 (المتعلق بوقف اطلاق النار بين العراق وايران) “لقد صدرنا ثورتنا”. جيد! وعندما يقول الإمام مثل ذلك، هذا يعني أن شيئاً خاصاً قد حصل… فالحرب يقول الجنرال قاسم سليماني في أحد خطاباته الذي نشرته وكالة تسنيم في الذكرى الأولى لرحيله “الحرب هي الأساس الرئيسي لإعلان ثورتنا. ربما لا شيء قد لعب دوراً في التحوّل الثقافي لبلدنا (حتى أكثر من الثورة نفسها) مثل الحرب”. وهكذا يُنبذ الحياد لأنه في جوهره نقيض الحرب. وما حملات التخوين سوى طريقٍ حتمي لتنافر هذين الضدّين. ضدّان أوحى إعلان بعبدا بتجاوزه نفورهما صورياً، وتسعى اليوم الكنيسة إلى إعادة إحيائه حتى ولو كان ذلك من خارج الحدود. تلك الآفاق الدولية عينها التي لم تأتِ فقط بالقرارات الدولية الخاصة بلبنان من الـ 425 إلى 1559 إلى 1680 إلى 1701 بل إلى ما يُقسم عليه رأس البلاد والنواب ويعمل بنصه الوزراء؛ انه اتفاق الطائف الذي تحوّل دستوراً. ألم يأتِ الطائف من خارج الحدود؟؟ وأليست دعوة المجتمع الدولي لمساعدة لبنان التي أطلقها البطريرك الراعي هي لمنع بقاء لبنان ساحة تتناتشها الدول؟ وبهذا المعنى يُراد بهذا التدويل أن يمنع التدويل؟

نعم لبنان ليس جزيرة، والحياد ليس بعازل لبنان عن واقع وقوعه على فالق جغرافي قامت عليه إسرائيل. البطريرك نفسه لم يحيّد اسرائيل من خطابه، بل تراه يرفض حصر مقاربة شرعية السلاح غير الرسمي بمقياس العداء مع اسرائيل بل بمقياس عقد سياسي واجتماعي لبناني يأخذ العدوان الاسرائيلي بالحسبان إلا أنه لا يقيمه وحده معياراً لشرعنة الذي لا ينص عليه الدستور. بهذا خلع البطريرك الغطاء المسيحي الذي كان يجلّلُ وضعاً شاذاً قائماً في البلد ليعيد محورية مركزية الدولة اللبنانية كحامٍ ومحامٍ عادل ومساوٍ لمواطنين غير متساوين… اللهم إلا في الفقر والحرمان.