كتبت عايدة الخطيب في “اللواء”:
هاجمت الكرة الأرضية جائحة غير مسبوقة دمّرت البنية التحتية للدول، والبنيانين الفكري والإقتصادي للشعوب قاطبةً، وإنعكس هذا الدمار الشامل بالطبع على الوطن الصغير لبنان، وكان له الوقع والأثر السلبيان على أسس الحياة، خاصةً لأن مقوّمات الإقتصاد وركائز الصحة كانت من الأساس مزعزعة، وغير مبنيّة على قواعد صلبة ومتينة، وقد إكتشفنا، نحن اللبنانيون وللأسف، بأن الهالة التي رسمناها عن القطاع الصحّي في لبنان، وعلى مدى سنوات، بأن لبنان هو مستشفى الشرق، وهو الملاذ الصحّي الآمن للخليجيين وللعرب، ما كانت إلا صورة مفبركة، تعكس هشاشةً كاملة شاملة لهذا القطاع الأساسي في حياة الإنسان.
وتؤكدّ المفارقات الخطيرة التي برزت أيضاً في هذا الزمن الرديء في تاريخ الوطن، بأن هذه الصورة السيئة عن القطاع الصحّي اللبناني لمّ تكنّ إلا رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته إقتصاداً ريعياً هزيلاً ضعيف البنيان، لا ثوابت له ولا قواعد.
وفي خضمّ هذا الإطار من الهشاشة هنا ومن الإنهيار هناك، إضطر طلاب لبنان وتلاميذه إلى الجلوس أمام شاشات حواسيبهم، والتجأوا إلى أجهزة هواتفهم، في جوّ عابق بالسلبية المالية والصحية والإقتصادية، ليمارسوا، تحت هذا الضغط النفسي الهائل، دورهم كطلاب ينشدون العلم والمعرفة.
وسيكون لهذا الضغط غير المسبوق على التلاميذ آثار سلبية مباشرة وغير مباشرة، ومنها تراجع التعلّم وإرتفاع معدلات التسرّب التعليمي، وخاصة بين الفئات المحرومة. وسيتوقف الطلاب بشكل عام عن تعلّم المواد الأكاديمية، وسيحدث التراجع الأكبر في صفوف الأطفال، الذين من غير المرجح أن تولي عائلاتهم الأولوية لتعلّمهم أثناء فترة إغلاق المدارس. وسوف تتسع فجوة عدم المساواة في التعلّم، وسنلمس غياب التشجيع من جانب المعلمين، على نحو يقللّ من ارتباط الطلاب المهمّشين بالتعليم المدرسي في ظل غياب الدعم والبنية الهيكلية اللذين توفّرهما المدارس. وسوف تتأثر صحة الطلاب النفسية بسبب العزلة خلال فترة التباعد الإجتماعي، وربما انخرط الشباب التاركون للدراسة وللأسف في سلوكيات خطرة، وقد تزداد خصوبة المراهقين.
أمّا الطامة الكبرى فستتمثلّ بتفاقم معاناة عملية التعلّم أكثر فأكثر، بسبب الضغوط الإقتصادية الواقعة على يوميات معيشة العائلات. فحتى لو لم يتسرب الطالب من التعليم، فستتقلص قدرة العائلات على تحمّل تكاليف الزوائد التعليمية، مثل الكتب بالمنزل أو نسخ الدروس المرسلة عبر الإنترنت، أو الدروس الخصوصية. وقد ينقل الآباء أبناءهم من المدارس الخاصة إلى الحكومية، الأمر الذي سيزيد من الضغوط على أنظمة المدارس الرسمية، المكتظة في الأساس، وسيقلل حكماً من جودتها.
وسوف تضرب الصدمة الإقتصادية المدارس والمعلمين. وسوف تؤدي الضغوط المالية إلى إنخفاض الإستثمارات في التعليم، وبالتالي تقليص الموارد المتاحة للمعلمين. وسوف نعاني من جودة التدريس، وستتدنّى المستويات التعليمية والتربوية، وستضمحلّ وسائل التقييم، وسنحصد جيلاً كاملاً، يحمل شهادات فارغة من مضامينها.
وأمام هذه الصورة الواقعية القاتمة، لن نقف نحن كمسؤولين وكأخصائيين دون أخذ المبادرة وإقتراح الحلول، والعمل والضغط في سبيل تنفيذها. والأمل معقودٌ على تفاني الأساتذة والمعلمين، وعلى وعي الأهل، وعلى ممارسة دورهم الطبيعي في رعاية أولادهم، وعلى قبول التحديات اليومية، فالنجاح هو نتيجة الجديّة والمثابرة والتضحية.
ونورد ههنا بعض إقتراحات الحلول العملية، ليتها تصبح واقعاً ملموساً:
التكيّف: ففي المرحلة الأولى، يجب أن تكون ألأولوية المطلقة هي التكيّف مع الإغلاق المفاجئ للمدارس، وفي حماية صحة الطالب وسلامتهم، والحيلولة دون حدوث خسائر في التعلّم.
المرحلة الثانية: إدارة الإستمرارية: في ظل التخفيف التدريجي لقواعد التباعد الإجتماعي، يتعيّن على وزارة التربية ضمان إعادة فتح المدارس بطريقة آمنة، وتقليل معدلات تسرّب الطالب إلى أدنى حد ممكن، والبدء في استعادة عملية التعلم. وتُعدّ إعادة فتح المدارس عملية معقدة، حيث يتعيّن فتحها على مراحل، مع احتمالية إغلاقها لدورات أخرى في أوقات انتشار الوباء.
المرحلة الثالثة: التحسين والتسريع: توفّر الأزمة أيضا الفرصة السانحة لإعادة بناء أنظمة تعليمية أقوى وأكثر إنصافاً من ذي قبل. فبعد انحسار الجائحة، سيكون أولياء الأمر، والمعلمون، ووسائل التعليم، والحكومة وغيرهم، قد غيّروا نظراتهم وتصوراتهم بشأن أدوارهم في العملية التعليمية، وستبرز الحاجة الملحّة للعمل المشترك بين الأهل والمدارس لتعزيز تعليم أبنائهم. وستكون الفجوة في المساواة أكثر وضوحا، ويجب العمل على تضييقها. وسيكون هناك فهم أفضل للفجوة الرقمية، أي الفوارق في القدرة على الوصول إلى الأجهزة، وإمكانيات التواصل الرقمي، والبرمجيات المناسبة، والعمل على دمجها في العمليات المنتظمة التي نقوم بها، بما في ذلك استخدام التكنولوجيا بشكل أكثر فعالية في أنظمة التعلم.
علينا أن نبدأ التخطيط لمستقبل أفضل منذ الآن. ففي الوقت الذي تتكيّف فيه الأنظمة التعليمية مع إغلاق المدارس، ينبغي لها البدء في التخطيط لكيفية إدارة الإستمرارية عندما تعيد المدارس فتح أبوابها، وكيفية تحسين التعلم وتسريعه. وينبغي أن يكون المبدأ التوجيهي المتّبع هو اغتنام كل فرصة، في كل مرحلة من المراحل، في تحسين الأداء. ومن خلال التعلم من الإبتكارات والإجراءات الطارئة المتخذة، ستتمكن الأنظمة التعليمية من مواءمة حلول أكثر كفاءة وسنتمكنّ من تطبيقها على نطاق أوسع.وبهذا ستزيد من كفاءتها، وخفة حركتها، وقدرتها على الصمود في وجه الأزمات. وليس من شأن توافر الرؤية واتخاذ الإجراءات الإستباقية في الحدّ من الضرر الناجم عن الأزمة الحالية فحسب، بل وفي تحويل التعافي منها إلى نمو حقيقي أيضا. فأمام مجتمعنا التربوي اللبناني فرصة حقيقية «لإعادة البناء على نحو أفضل»، ويتعيّن عليها إقتناصها، أفلا يكفي ما أضعنا من فرص في السابق؟!