كتب المحامي زكريا الغول في “اللواء”:
لم تفلح كل محاولات التوفیق بین أفرقاء النزاع في لبنان في إیجاد حل لمعضلة تشكیل حكومة جدیدة في لبنان، ومع إشتداد أزمات البلاد الإقتصادیة والإجتماعیة، برز طرح البطریرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي حول إعلان حیاد لبنان وضرورة إنعقاد مؤتمر دولي لحل الأزمة اللبنانیة، وإنقسم اللبنانیون كعادتهم حول الموقف من الحیاد بین مؤید ومعارض، هذا فضلاً عن الإتهامات المتبادلة حول تحمیل مسؤولیة التأخیر في تشكیل الحكومة الى ذلك المحور أو ذاك.
إن الإنقسام الحاصل في لبنان بین محور وأخر لیس جدیداً في الحیاة السیاسیة اللبنانیة، فخلال ولایة الرئیس كمیل شمعون الممتدة من العام 1952 وحتى العام 1958، حدث إنقسام كبیر بین اللبنانیین حول توجهات سیاسة لبنان الخارجیة، فضلاً عن الصراع الداخلي حول السلطة، فبعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956،إنتهت فرنسا وبریطانیا كقوتین إمبراطوریتین، وحلت محلهما الولایات المتحدة الأمیركیة، لتبدأ مرحلة عرفت بالحرب الباردة بین المعسكرین الشرقي والغربي، ولتفادي المد السوفیاتي في منطقة الشرق الأوسط، عمدت الولایات المتحدة الى إنشاء شبكة من المحاور المؤیدة لها كان أبرزها حلف بغداد، إستناداً الى مبدأ أیزنهاور لمساعدة الدول الشرق أوسطیة على مواجهة المد الشیوعي.
كان الرئیس كمیل شمعون قد إختلف داخلیاً مع رفاقه في الكتلة الاشتراكیة بعد إنتخابه رئیساً، وإتهم من قبلهم بإنقلابه على تعهداته في محاولة منه للإستئثار بالسلطة، فیما إتهمهم بالتبعیة للرئیس المصري جمال عبد الناصر الذي تحول الى الزعیم العربي الأول بعد عدوان العام 1956 ، وأثارت مسألة الأحلاف في المنطقة حساسیة كبیرة وإنقساماً حاداً في الداخل اللبناني مع وجود رغبة شمعونیة في الإنضمام لحلف بغداد، تمثلت بزیارات تركیة الى لبنان، ولبنانیة الى تركیا، ناهیك عن الدعم الهاشمي لحكم الرئیس شمعون، خاصة من قبل الوصي على عرش العراق الأمیر عبد الاله ورئیس الوزراء نوري السعید، وإزداد الإنقسام في لبنان مع إعلان الوحدة المصریة – السوریة، وتأیید عدد كبیر من اللبنانیین لدولة الوحدة، مقابل خشیة شمعونیة من محاولات ضم لبنان الى الدولة العربیة الموحدة الحدیثة العهد .
عند إندلاع ثورة العام 1958 في لبنان، والتي إعتبرت حرب أهلیة مصغرة، كان العامل الخارجي الأكثر تأثیراً في تفاقمها، دون إغفال عوامل الإنقسام الداخلي، وبینما كانت الأنظار الدولیة شاخصة الى النزاع الدائر في لبنان، حدث ما لم یكن في الحسبان، فقد قام إنقلاب عسكري في العراق ضد الحكم الهاشمي في الرابع عشر من تموز عام 1958 ، واطاح به ووصل الى الحكم ضباط الجیش العراقي في فاتحة لسلسة من الإنقلابات العسكریة التي ستطبع العراق بطابع خاص، وفي الیوم التالي للإطاحة بالنظام الهاشمي في العراق دخلت قوات البحریة الأمیركیة الى لبنان عبر تدخل عسكري یعتبر الأول من نوعه بعد الحرب العالمیة الثانیة .
بسقوط الحكم الملكي الهاشمي في العراق، إنتهى حلف بغداد، وكان دخول قوات المارینز الى بیروت، عاملاً مؤثراً في ضبط الأوضاع الأمنیة ومنع سقوط حكم الرئیس شمعون نهائیاً، لیتم عقد التسویة الشهیرة بین الولایات المتحدة ومصر التي أتت بقائد الجیش اللواء فؤاد شهاب رئیساً للجمهوریة، أعقبها فترة طویلة من الإزدهار إستناداً الى مفاعیل تلك التسویة الدولیة .
وبالعودة الى الإنقسام العامودي الحاد الحاصل حالیاً في لبنان، فإنه أمام مفترق طرق خطیر بل وجودي قد یهدد إستمراه كدولة، وهو بالحالة تلك غیر قادر على تحمل تبعات الإنضمام الى محاور أقلیمیة ودولیة، وما یعانیه من عزلة بسبب سیاسات خاطئة هو أحد أوجه سیاسة المحاور القائمة .
عند إشتداد الصراع بین الدول الكبرى، على الدول الصغرى حمایة نفسها من تبعات ذلك الصراع، ولبنان بتركیبته الهشة أعجز عن الدخول في صراعات القوى الكبرى وتمحل تبعات إختلافاتها.