كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
سادت في الآونة الأخيرة موجة من التداول بطرحين:
الأول: طرح الحرب الأهلية، الذي أطلقه الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله في ردّه على مطالبة البطريرك الماروني بشارة الراعي بعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان.
والطرح الثاني: التحذير من الفتنة السنية الشيعية، في سياق الحديث عن رفض البعض تأييد طروحات البطريرك الراعي، والتحذير من إغضاب «حزب الله» حتى لا يتكرّر في لبنان، ما حصل ضدّ السنة في سوريا والعراق.
لا حرب أهلية بل عدوان مسلّح
في مسألة الحرب الأهلية التي هدّد بها عملياً أمين عام «حزب الله» يبدو واضحاً أن الحزب يراهن على ترهيب اللبنانيين بعصا 7 أيار 2008 ، واستحضار عناصر الإرهاب النفسية والسياسية والأمنية، لدفع اللبنانيين إلى التأقلم مع نزعته الاستبدادية والخضوع لمندرجات سيطرته على البلد، وعدم الاعتراض على قضمه المتواصل للسيادة وامتصاصه ما تبقى من إمكانات الدولة لصالح إيران ومشروعها في المنطقة.
الحرب الأهلية التي تحدث عنها نصرالله تحتاج عملياً إلى أطراف تتناحر فيما بينها وتخوض القتال على جبهات متواجهة.
لكن في لبنان، ليس هناك من يمتلك السلاح والتنظيم والقدرة على خوض الحرب سوى «حزب الله». هل كان الأَولى في هذه الحال أن يقول نصرالله: إنّ طرح المؤتمر الدولي من قبل البطريرك الراعي يعني أنّنا سنقوم بالهجوم عليكم وسحقكم لأنكم بهذا الموقف تصبحون أعداءنا؟!
هكذا. بكل بساطة ووضوح، ينبغي أن نرى الموقف، بعيداً عن أساليب التجميل والتمويه والهرب من الحقيقية والواقع. فنحن أمام حزب لا يرى الحلّ إذا انسدّت الآفاق السياسية، سوى في اللجوء إلى العنف، وهو سبق أن افتخر بجريمة السابع من أيار واعتبرها «يوماً مجيداً». فلماذا نغلّف بشاعة التهديد بعباراتٍ تبرِّر لمن يبتزّنا عدوانه علينا؟
حان وقت إعلان سقوط لبنان في المحور الإيراني
لماذا نتعامى عن حقيقة ما يقوله أصحاب المشروع الإيراني، خاصة بعد أن أعلن نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم بكل وضوح أن «الحل أن نكون في محور المقاومة، الذي ترعاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، مضيفاً: «يجب أن نعمل في هذا المحور لامتلاك كل أسباب القوة والتسلّح إلى أقصى مدى»!
ماذا يعني كلام الشيخ قاسم؟ إنّ لبنان اليوم هو، بحكم الأمر الواقع، في المحور الإيراني، لكنّ المقصود بهذا الكلام هو إتمام التغييرات الدستورية والاستراتيجية التي تجعل من لبنان كلياً في الحضن الإيراني، يقوم «المجاهدون» وليس الجيش بالدفاع عن «أرضه واستقلاله» عن هويته الحضارية التي نشأ عليها وطناً للتعدّدية والعيش المشترك، ورفض «المواطنة وشروطها» باعتبارها قاعدة المساواة بين الجميع، فتزول امتيازات القوة، ويقاتل «المجاهدون» من أجل «استقلال لبنان» عن العالم العربي والمجتمع الدولي.
ما حقيقة الفتنة السنية – الشيعية؟
الطرح الآخر هو التحذير من الفتنة السنية الشيعية في لبنان.
وهذا الشعار يحمله الرئيس سعد الحريري ليل نهار ليبرِّر ما يقدّمه «تضحيات» على مذبح الوحدة الوطنية. السؤال هنا: ماذا تعني الفتنة المذهبية؟ ولماذا أعيد طرح هذا المصطلح بعد مبادرة البطريرك الراعي، ولماذا انطلقت موجة ترويجية بأن تأييد مفتي الجمهورية لطرح البطريرك سيؤدي إلى الفتنة بين السنة والشيعة؟
الجواب ببساطة أيضاً أنّ الفتنة هي أن يقتتل السنة والشيعة في بلدنا.
لكن كيف يكون قتال، والسنّة عُزَّل والحزب مدجدج بالسلاح، وكيف تنشأ الفتنة، إذا كان من لا يمتلك السلاح قد أعلن «ربط النزاع»، وهو مصطلح مطاطي من إنتاج مطبخ التنازلات السياسية التي لا تنتهي.
الحقيقة هي أنّ التلويح بالفتنة المذهبية ليس سوى تهديد آخر لتخييرنا بين الدولة والفوضى، وبين المطالبة بالشرعية والقتل على الهوية.
المؤسف أنّ في صفوف أهل السنة من يصدق هذا الطرح، بل ويعتقد أنّه بمهادنته لـ«حزب الله» وبتخلّيه عن ثوابت الدولة وبرفضه تناول مسألة السلاح غير الشرعي، وبتغاضيه عن الجرائم التي يرتكبها التحالف الحاكم بحقّ الناس والدستور.. فإنّه بهذه التنازلات ينجو من المصير الأسود الذي لاقاه السنّة في سوريا والعراق. هذا التفكير السطحي هو سبب هدر الحقوق وانهيار منظومة الصمود السياسي والاجتماعي لدى أهل السنّة في لبنان.
وهو تفكير مغايرٌ للواقع. ذلك أنّه كان في سوريا والعراق سنّة موالون للنظام ومنهم من شكّلوا قوات عسكرية حاربت في صفوفه، كما هو حال الصحوات في العراق، وانخراط أعداد كبيرة من السنّة في جيش الأسد، لكنّ هذا لم يحمِ مدن هؤلاء من التدمير، ولم يحصِّن أهلها من الإفناء الجماعي، بل لم يحم المنخرطين في هذا المشروع أنفسهم، كما حصل مع تصفية الصحوات في العراق واضطهاد القائمين عليها وتصفيتهم.
المشروع الإيراني لا يتأثر بالتنازلات
ما لا يفهمه الكثيرون عن طبيعة المشروع الإيراني أنّه ثابت لا يتأثر بما يحاول الآخرون رميه في طريقه من وسائل الاسترحام ومن مبرِّرات الانصياع. فهذه عوامل طارئة لا يقيم لها نظام ولاية الفقيه وزناً ولا اعتباراً، وقد تشكّل عوامل تهدئة ظرفية ومؤقتة، لكنها لا تنتزع أبداً القناعات الثابتة، ولا تغيّر الخطط الموضوعة للتغيير السياسي والديمغرافي والاجتماعي التي تسعى طهران إلى تنفيذها في المنطقة.
ذهب البعض في شططه السياسي إلى الدعوة إلى تحالف السنة والشيعة لعزل الموارنة وإسقاط مبادرة البطريرك الراعي. على خلفية ما يسوقه عدد من قيادات تيار المستقبل عن علاقتهم السيئة بالقوات اللبنانية، وبالاستناد إلى إثارة العصبيات الطائفية البغيضة التي تعتبر أنّ تكتل «المسلمين» سيجعل منهم القوة الحاكمة.
لهؤلاء لا بدّ من تذكيرهم بالآتي:
أنّ «حزب الله» يطرح الآن فكرة «وحدة المسلمين»، ليس لإيمانه بهذه الوحدة، بل لأنّه يريد تفسيخ الجسم الوطني وتحطيم فكرة لبنان، الذي قام عموده الفقري على الوجود المسيحي وعلى الشراكة الإسلامية المسيحية، وبدون هذا الوجود وبدون هذه الشراكة، لا يعود للبنان معنى ولا مبرِّر، بل نكون أمام «مخلوق سياسي» مشوَّه لا يحمل أي قدرة على الحياة الطبيعية، بل سيكون اشبه بكانتون من الجحيم.
– على أهل السنة أن يعلموا أن ما تبقى من حصانة للبنان، إنما تأتي من الوجود المسيحي فيه، وأنّ أي إقصاء أو تهميش يطال الوجود المسيحي، يس ّ هل ل»حزب الله» تكرار ما فعله مع الأغلبية السنية في سوريا وما فعله مع أكثر من أربعين في المائة من العراقيين، وهي نسبة أهل السنة في بلاد الرافدين، بعد فصل الأكراد عنهم، والتهمة الحاضرة دائماً هي الإرهاب.
فلا يعتقدّن أحدٌ من أهل السنة، وخاصة رؤساء الحكومات السابقين، أو بعضهم، أن فكرة التحالف المطروحة مع «حزب الله» ستعني تغييراً في المعادلات، فالحزب لم يعمل لسنوات وعقود على إضعاف البيت السنيّ، ليعود ويمنح أهله القوة والسلطة والشراكة. فالمشروع الإيراني لا يقبل الشراكة، بل يفرض الخضوع والذلّ والتبعية.
– إن كراهيتنا للجرائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يرتكبها التيار الوطني الحرّ، رئاسة وتياراً، لا ينبغي أن تدفعنا للانزلاق إلى كراهية المسيحيين، فالمسيحيون هم أول ضحايا هذا الحكم، وليسوا مستفيدين منه، لأنّ المستفيد الوحيد هو جبران باسيل ومنظومته الجشعة.
أخيراً، وفي هذا السياق:
لطالما رفض أهل السنة منطق «حلف الأقليات» وحمّلوا هذا الحلف المسؤولية عن المصائب التي نالتهم في المنطقة، فهل يكون الحلّ بانضمامهم إلى محور الأقليات، لتشكيل أغلبية قاهرة لشركائهم في الوطن؟
أخذت الحماسة البعض فهلّلوا لتحالف السنة والشيعة، ورموا خلفهم منطق الدولة والمواطنة، وقد غاب عن فكرهم أنّ كلّ بناء خارج الدولة، ليس سوى مقبرة جماعية للبلد، ولأبنائه بجميع طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم، فمنطق السلاح غير الشرعي لا يستقيم مع منطق العدالة والحرية والوطن.