IMLebanon

إنّه زمن “الصنعة”… فهل تُعيد زحلة ترميم العلاقة معها؟

كتبت لوسي بارسخيان في صحيفة نداء الوطن:

في ظلّ شكوى معظم المؤسسات التجارية من الجمود المسيطر على أنشطتها، تبرز من عمق الأزمة في مدينة زحلة حِرف تناضل للبقاء بصعوبة، وسط تحوّل في عادات اللبنانيين الإستهلاكية وسّع الهوة مع مهن كانت حتّى زمن غير بعيد توفّر فرص عمل للعشرات من شباب المدينة، وتؤمّن سمعة تخصّصية لمحترفيها، الذين كانوا مقصودين من شتّى نواحي البقاع، قبل أن تغزوها يد عاملة أجنبية ضاربتهم بكلفتها حتّى لو كانت نسبة جودتها أقلّ.

أجيال الستّينات والسبعينات وحتّى بعض الثمانينات في مدينة زحلة هم أكثر من يقدّرون هذه المهن، منذ فقدوا وجهتهم السابقة الى الخيّاطين، صانعي الأحذية وبائعيها، محلات صيانة الغسالات، الطناجر، الأدوات الكهربائية، النجّارين، وحتّى ميكانيكيّي السيارات وحدّاديها. كانت عناوين هؤلاء ثابتة بالنسبة لهم، ما جعل طبيعة العلاقة مع أصحاب المهن تميل للصداقة أكثر منها الى علاقة زبون بمقدّم الخدمة.

تبدّل هذا الواقع في زحلة عندما قطعت الأجيال الجديدة العلاقة مع المهن، فتغيّرت هويّة بعض الأماكن، ومن بينها “المدينة الصناعية”. فهذه المنطقة التي تشكّل تجمّعاً لحدّادي السيارات وميكانيكييها، ولغيرها من الصناعات الخفيفة في زحلة، ما عادت لأهلها. وبين المضاربة الغريبة وتوسّع صناعيي القرى المجاورة بإتجاهها، تراجع وجود الزحالنة الى عشر أعداد المعلّمين في المدينة الصناعية، ومع هذا التراجع إختفى عنصر الشباب الذين ما عادت تستهويهم المصلحة.

يقول طانوس جبور إنّه يكاد يكون الوحيد في المدينة الصناعية الذي نزل أولاده ليعملوا معه في كاراجه لإصلاح السيارات. ولكن إذا كان لطانوس دوافعه التي تجعله لا يقبل أن يعمل أولاده تحت أيدي معلّمين آخرين، فلإبنه ميشال الذي استطاع أن يصقل الخبرة بالمعرفة دوافع مرتبطة بحبّ المهنة، والرغبة باللحاق بكلّ ما يتطلّبه السوق من تطوّر، وخصوصاً بما يتعلّق بإصلاح السيارات الحديثة.

بشكل عام المهنة ليست سهلة، ومن هنا يقول ميكانيكيو السيارات أنهم أبعدوا أولادهم عنها ووجّهوهم الى إختصاصات جامعية، من دون أن يقصدوا التسبّب بفراغ في القوة العاملة المطلوبة. فكانت مفاجأتهم أنّ من ملأوا الفراغ هم ممّن كانوا يعملون عندهم، وصاروا بعد فترة من التمرّس قادرين على مضاربتهم.

الأمر ينطبق على مهن أخرى كانت أكثر إزدهاراً في مدينة زحلة، كصناعة الاحذية التي قزّمت لتقتصر على إصلاح تلك المستوردة، ومهنة الخياطة التي استبدلت بالرتي والتوسيع والتضييق والترقيع.

بحسب أحد الخياطين، فإنّ نمط الحياة السريعة الذي ميّز الأجيال الجديدة، لم يعد ملائماً للتردّد على الخياطين، وصار الشباب يفضّلون شراء أي قطعة وارتداءها مباشرة، خصوصاً بعدما غزت البضائع التركية والصينية الأسواق، وصارت الثياب الجاهزة متوفرة لكلّ الميزانيات.

هذا الواقع جعل الخيّاطين يتوجّهون الى تصليح الثياب، ومع الوقت إستسهلوا هذا العمل الذي لا يستغرق وقتاً وجهداً، ويؤمّن مداخيل أفضل لهم، ولم يكن في حسابهم أن تصبح مهنتهم حالياً من أكثر المهن قدرة على الصمود.

ينطبق الأمر أيضاً على مهنة إصلاح الأحذية والتي يتوقّع أحد معلّميها النادرين في زحلة ايلي بدوان أن تشهد إزدهاراً أكبر مع تراجع القدرة الشرائية للناس، لافتاً الى أنّه في الأشهر الأخيرة تضاعف العمل بمحله ثلاث مرات، وكانت هناك عشرات الأحذية المهملة لديه حضر أصحابها ليأخذوها مجدّداً.

إصلاح المعدّات الكهربائية يبدو أيضاً من المهن الواعدة في المرحلة المقبلة، ليس فقط بسبب الضائقة التي يعيشها اللبنانيون، إنمّا لكونها أصبحت مهنة نادرة في زمن تهافت الناس على الإحتفاظ بمعدّاتهم القديمة.

بحسب جورج الحجّار، وهو واحد من التقنيين الكهربائيين الذين يدرّسون المادة أيضاً، فإنّ السوق يعاني نقصاً كبيراً باليد المتخصّصة بهذا المجال، والمسؤولية يتحمّلها الأهل الذين إبتعدوا عن تعليم المهن لأولادهم، وأفسدوهم بالراحة التي ينشدونها لهم.

الا أنّ القلّة التي بات يعاني منها اللبنانيون، ويرجّح أن تدفع بهم لصيانة ممتلكاتهم بدلاً من تجديدها، لا يبدو أنّه سيوازيها إحياء لهذه المهن النادرة في المدينة، إذ لا يتوقّع أن يصحّح السوق واقعه سريعاً، ذلك وفقاً لأهل المهنة لكوننا فقدنا جيلاً أو جيلين من اليد العاملة المتمرّسة بمختلف المهن، وبالتالي إذا كانت الأزمة اللبنانية ستتطلّب تغييراً في نمط الحياة، فإنّه برأيهم هذا هو الوقت المناسب لإعادة توجيه الأجيال الجديدة نحو المهن، وعدم التعاطي معها كملهاة عن الرسوب المدرسي، فالمستقبل، أقلّه القريب والمتوسّط، هو لمن يتقنون تقديم الخدمات، وعلى اللبنانيين أن يعتادوا أنّ زمن إستسهال التخلّي عن المقتنيات القديمة وإستبدالها بجديدة قد ولّى، فإمّا أن يستثمروا بهذا الواقع الجديد، أو يغرقوا بالحرمان.