كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
لم تكن الصرخة التي أطلقها قائد الجيش العماد جوزف عون من اليرزة خلال الإجتماع الموسّع مع أركان القيادة وقادة الوحدات الكبرى والأفواج المستقلّة في حضور أعضاء المجلس العسكري، مجرّد صوت من دون صدى. ولم تكن يتيمة إذ ظهر أن لها ترددات مشابهة في المؤسسات العسكرية الأخرى وقد عبّر عنها بشكل مشابه وأكثر خطورة وزير الداخلية العميد محمد فهمي عندما أعلن أن الأمن مكشوف ومفتوح على كل الإحتمالات بما يعني أن الخطر الأمني يهدّد بالإنهيار. إنّه جرس إنذار فمن يسمع؟
عسكر على مين؟ هذا الشعار كان يُطلق عندما كانت القوى الأمنية تتصدّى للتحركات في الشارع على قاعدة رفض ما تقوم به باعتبارها تنفذ قرارات السلطة السياسية وتقمع التحركات المطلبية بغضّ النظر عن طبيعتها وأحقيتها. ولكن أن تصل الأمور إلى أن تصير المؤسّسات الأمنية هي التي ترفع شعارات المطالب الحياتية لمساواتها مع الفئات الشعبية الأخرى الواقعة تحت ضغط الأزمات المعيشية فهذا يعني أنّ هذه المؤسّسات صارت هي أيضاً جزءاً من هذا الشارع وبالتالي صارت صرختها مكمّلة لصرخة الناس لأنّها في النهاية ليست إلا جزءاً من هؤلاء الناس.
ولكن صرخة العسكر كما صرخة الناس لا تجد بعد من يستمع إليها. هناك سلطة تصمّ أذنيها وترفض سماع هذه الصرخة. إذا كانت هذه السلطة تريد أن تجعل من القوى العسكرية والأمنية مجرّد أدوات لها وتستخدمها ضد الشارع فهي قد تستفيق لتجد أن هذه القوى صارت أيضا جزءاً من الشارع. ولكن الأخطر في هذا الأمر أن يتحول التعب الأمني إلى انحلال وأن يخرج الجيش مثلاً من الشارع عندما تكون هناك حاجة لتدخّله.
استنزاف القوى الأمنية لم يبدأ في 17 تشرين 2019. هذه القوى كانت مستنزفة قبل هذا التاريخ بكثير. ثمّة رابط بين المستوى العسكري والمستوى الإقتصادي. هناك من يعتبر أنّه كما تمّ استنزاف الخزينة العامة ومصرف لبنان يتم استنزاف القوى الأمنية. حتى الأزمة الحالية، كان يقال إن استمرار الإستقرار يقوم على ركيزتي الإقتصاد والأمن وعلى مؤسّستي مصرف لبنان وقيادة الجيش ومعها سائر المؤسسات الأمنية. الصرخة العسكرية الأخيرة الطالعة من قلب المؤسّسات تنبئ بأنّ هذا الإستقرار قد بدأ ينهار أو هو يقترب من أن يلفظ أنفاسه أيضا. فهل هذا ما تريده بقايا السلطة؟
الشكوى العسكرية لا تحصر مطالبها بالبحث عن لقمة العيش بل عن الحل السياسي وبدء السير في خريطة الخروج من الأزمة. الصرخة الإقتصادية بدأت منذ العام 2011 تقريبا مع الإنقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري وتشكيل حكومة موالية لمحور “حزب الله” برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي ومع بداية الحرب في سوريا. وصلت هذه التجربة بعد عامين إلى نكسة كبيرة لهذا المحور الذي لا يعرف كيف يمارس الحكم ولا يترك غيره يحكم ولا يقبل بمشاركته الكاملة في الحكم بل يريده غطاء لسياسته. وتفاقم هذا الإنهيار منذ العام 2014 مع الفراغ الرئاسي وحكومة الرئيس تمام سلام التي تعمّقت الأزمة خلال ولايتها. بدل أن يكون انتخاب رئيس للجمهورية بداية خروج من الأزمة كأنّه كان المطلوب الغرق فيها أكثر. انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بدل أن يشكل أيضاً مخرجاً من هذه الأزمة ظهر وكأنّه إصرار على البقاء في القعر وزيادة السرعة نحو “جهنّم”. منذ العام 2016 بدأ الصراخ والتحذير من الوضع الإقتصادي ولكن من دون نتيجة. وفي مؤتمر سيدر في نيسان 2018 كان تأكيد على الهوّة الكبيرة وضرورة اعتماد خطة منظّمة للخروج منها ولكن الخيارات الإستراتيجية المرتبطة بسياسة محور “حزب الله” طغت على المشكلة. الإنهيار الكبير بعد ثورة 17 تشرين لم يكن إلا نتيجة حتمية لهذا المسار.
أمنياً لم يكن المسار مختلفاً. في العام 2007 خاض الجيش اللبناني تجربة أمنية قاسية في معركة مخيم نهر البارد. لم يكن هذا الجيش قد استعاد عافيته بعد. وكان تلقى ضربات موجعة خلال حرب تموز 2006 التي كسرت ظهر لبنان اقتصادياً وبالتالي كان عليه أن يُستنزف في تلك الحرب التي سقط له فيها 168 شهيداً ونحو ألفي جريح بعد ثلاثة أشهر ونصف من القتال الذي خاضه بما توفر من عتاد وعديد لم يكن بحجم تلك المعركة. التجربة الثانية عاشها الجيش في أحداث 8 أيار 2008 عندما لم يستطع أن يمنعها وتحوّل في النهاية إلى قوة فصل غطّت نتائج العملية التي أخذت لبنان إلى تسوية الدوحة ووصول قائد الجيش العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية.
بين معركة نهر البارد ومعركة فجر الجرود من 19 آب حتى 29 آب 2017 استطاع الجيش ان يحقّق تقدماً كبيراً من حيث الجاهزية القتالية والتسليح والتدريب مستفيداً من مساعدات دولية وخصوصاً أميركية. خلال عشرة ايام استطاع الجيش أن يحسم الوضع ضد مسلحي التنظيمات الأصولية في جرود القاع وراس بعلبك من دون خسائر تذكر قياساً على ما تكبّده في معركة نهر البارد. وبدل أن يكون هذا الإنجاز مدخلاً إلى تعزيز دوره في الداخل دفاعاً عن الحدود وجد نفسه في قلب الشوارع منذ ثورة 17 تشرين. الإستنزاف الإقتصادي المستمرّ كان متلازماً مع استنزاف أمني مستمرّ. ليس أمراً طبيعياً أن يبقى الجيش مع القوى الأمنية الأخرى على الأرض طوال هذه المدة من دون انقطاع. يمكن أن تحصل حوادث محدودة ويمكن أن يتدخّل الجيش فيها لحسمها كما حصل مثلاً في معركة عبرا أو في بعض مناطق الشمال، ولكن أن يجد نفسه مضطراً إلى الإنتشار المستمرّ في الداخل كما على الحدود فهذه مسألة لا يمكن أن يتحمّلها طويلاً خصوصاً إذا تفاقمت الأزمة المعيشية ودخلت إلى المؤسسة. فالجيش كما قوى الأمن والأجهزة الأمنية الأخرى تعيش واقع التقنين المالي الذي عبّر عنه قائد الجيش ووزير الداخلية. الشكوى تجوز ولكن من يعالج التداعيات؟ “اعملوا شيئا”. هكذا كانت المناشدة. البلد فالت أمنياً. والوضع هشّ ومفتوح على كل الإحتمالات. ينوء لبنان تحت ضغط الأزمة السياسية والدستورية والمالية والمعيشية. فهل يستطيع أن يتحمّل انهياراً أمنياً؟
الأخطر من هذا الإتجاه نحو الإنهيار الأمني أنّ هناك من حاول أن يردّ على قائد الجيش بالقول إن عدداً من الضباط الذين كانوا حاضرين ومستمعين لم يكونوا موافقين على ما عبّر عنه العماد جوزف عون. تلك مسألة ليست بسيطة. فهل هناك من يهدّد اليوم بأنه يستطيع أن يرعي عملية اعتراض أو انشقاق داخل الجيش إذا وجد أن سياسة القيادة الأمنية تتعارض مع ما يريده منها تحديداً؟ أو إذا اعتبر أن الجيش ليس أداة بيده؟ هل هكذا يتم الرد على الصرخة العسكرية؟ هذا الأمر لم يغب عن بال قائد الجيش عندما حذر “إذا كان هدف هذه الحملات هو ضرب الجيش وتشويه صورته، فإننا لن نسمح أن يكون الجيش مكسر عصا لأحد ولن يؤثّر هذا الأمر على معنوياتنا ومهمّاتنا. ربّما للبعض غايات وأهداف مخفية في انتقاد الجيش وشن الحملات عليه، وهم يدركون أن فرط الجيش يعني نهاية الكيان. أؤكّد أنّ كرامة المؤسّسة فوق أي اعتبار، وكرامة العسكريين والشهداء أمانة في أعناقنا ولن نسمح لأحد أن يمسّ بها”.