IMLebanon

معادلة توازن جديدة: لا استقرار مع الإنهيار في وقت واحد!

طرحت كلمة قائد الجيش اللبناني الحالي، العماد جوزيف عون، قبل أن يشارك في اجتماع أمني دعا إليه الرئيس ميشال عون للبحث في كيفية مواجهة الانهيار المريع في سعر صرف الليرة اللبنانية، عندما تربّع الدولار الأميركي، في إحدى منصاته الأكثر حيوية، منصة السوق السوداء، أو الموازية تهذيباً، على عتبة العشرة آلاف ليرة، وتخطاها، قبل أن تدفعه السياسات الخاطئة والملعونة، إلى الـ12500 أو 13000 ليرة لبنانية لكل دولار (أمس الأول السبت).. طرحت هذه الكلمة سلسلة من الأسئلة، ورسمت الطريق لخيارات، لا أحد يعرف، بالتالي، إلى أين تؤدي.

وربطت رويترز بين الكلمة وفرار بعض العسكريين، بينهم ضباط، ورتباء وجنود، تحت وطأة الصعوبات الاقتصادية.

والبعض ذهب في تحليله إلى أن قائد الجيش له طموحات سياسية، وهو في سياق اشتباك مع فريق القصر، نظراً للسباق إلى بعبدا بعد 31 (ت1) 2022 (الموعد الدستوري لنهاية ولاية الرئيس ميشال عون) مع فريق القصر، وأقرب المقربين إليه النائب جبران باسيل.

والبعض الثالث اعتبر أن كلمة عون، وسؤاله للسياسيين، أين ذاهبون، ماذا ترغبون أن تفعلوا؟ أمام القيادات العسكرية العليا تطرح إمكان اعتبارها بمنزلة الإنذار رقم واحد للطبقة السياسية.

وبعيداً عن هذا الاعتبار أو ذاك، تقضي القراءة الموضوعية للكلام النوعي، للموقع العسكري الأول في البلد، وضعه في سياقات عدة، أبرزها التاريخي، والراهن، والمكان، والزمان، والمناسبة، والشخص، والجهة المرسل إليها الكلام.

(1) من الناحية التاريخية، كان للجيش اللبناني وقائده دور، ولا يزال في العملية السياسية، وتوازن السلطات، مع العلم أن الطائف أخضع القوى العسكرية إلى أوامر القيادة السياسية، وذلك تحت وطأة «تمرد» العماد عون عام 1989 – 1990 على القيادة السياسية، وحل مجلس النواب، وعدم الاعتراف بانتخاب الرئيس الياس الهراوي رئيساً للجمهورية.

لكن التجربة التاريخية، وإن أنبأت بانقسامات في الجيش (حرب الـ75-76) أو حتى انقلاب عبدالعزيز الأحدب في عهد الرئيس سليمان فرنجية، إلا أن هذه التجربة التاريخية لم تتحدث عن انقلاب عسكري، قاده قائد الجيش، أو أي ضابط، باستثناء تجربة الانقلاب الذي شارك فيه ضباط ينتمون إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي أيام زعيمه أنطوان سعادة، وإن كان قائد الجيش تمكن من الوصول، ديمقراطياً إلى الرئاسة الأولى، من أيام الجنرال فؤاد شهاب، إلى الجنرالات: إميل لحود، وميشال سليمان، وحالياً ميشال عون.

إذاً، الاستنتاج الأول، بالقاطع أن انقلاباً «تام الأوصاف» لم يحدث في تاريخ لبنان الحديث، لاستلام السلطة، كما حدث في سوريا، والعراق، والجزائر، ومصر، وموريتانيا، والسودان، ودول عربية أخرى، وفي العالم الثالث، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية.

(2) لا حاجة لبحث الأسباب، ربما المسألة تعود إلى حسابات تتصل بتكوين الدولة، وقدرة ممثلي الطوائف، على تسخير القوى العسكرية على خدمة المواقع الطائفية في تقاسم السلطة أو الانقلاب عليها… وربما تكون وراء المسألة أو الظاهرة أسباب أخرى… لا مجال للبحث عنها هنا.

(3) لكن الثابت أن قائد الجيش اللبناني، في تركيبة السلطة، كان يشكّل إلى جانب الرئاسة الأولى، عنصر قوة في التوازن الداخلي، لإبقاء مسار السلطات على السكة التي لا تذهب إلى الفوضى، أو سوء التقدير. ولعل تجربة العماد إميل بستاني، الذي وقّع اتفاق القاهرة مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، خير دليل على ذلك.

(4) إلى وقت بعيد، سيبقى كلام جوزاف عون في اليرزة حدثاً مدوياً، من دون أن يجعل المحلل، او المراقب، يستعجل الاستنتاج بأن الرجل قاب قوسين أو أدنى من وضع يده على السلطة، أو إعلان الخروج عن سلطة الطبقة السياسية التي دخلت منذ 17 (ت1) 2019، في اشتباك يومي مع جمهور الشعب، ما خلا ما بقي من «زبائنية شعبية» يلجأون إليها عند الملمات.

(5) كشف كلام قائد الجيش عن هامش قوي لدى القوى العسكرية، أنها ليست قادرة على تجاهل، وجع الجمهور، بعدما أصبح العسكري، أياً كانت رتبته، عاجزاً عن الوفاء، بأي التزام تجاه عائلته وأطفاله. قال أحدهم، للوكالة الدولية الإخبارية «لم أعد قادراً على دفع إيجار البيت، كنت أستطيع شراء ما يحتاجه أطفالي، لكنه لم يعد قادراً، الآن على شيء سوى شراء بعض سلع البقالة».

(6) قال جوزاف عون: «ما زلت ممسكاً بزمام المبادرة، محذراً من جر البلاد وسائر المؤسسات إلى حافة الهاوية».

بالحسابات الداخلية، ثلاثة مواقع كبرى في تركيبة الكيان اللبناني: بكركي (البطريرك الماروني)، مصرف لبنان (موقع ماروني)، قيادة الجيش (موقع ماروني) تقاطعت عند عدم الارتياح إلى الموقع الماروني الأول في الدولة (رئاسة الجمهورية).

(7) تغيرت معادلة التوازن الداخلي، وباتت المعطيات، تأخذ في الحسبان، دور القوى المسلحة، والجند في حركة رسم مستقبل البلد، سواء لجهة التماس طريق الخلاص أو رسم دور «حماية الاستقرار» كأولوية، ثم الانهماك، بالضغط لإعادة إصلاح مواقع الخلل بالدولة.

قد يكون دور الجيش اللبناني، المحكوم بالطاعة، استناداً إلى القوانين واحترامها، يقف الآن عند حدود حماية الاستقرار، من دون الحد من الاندفاعة الشعبية لإحداث تغيير في السلطة، سواء عبر الانتخابات، أو ردات الفعل، ولكن مشروع التغيير عبر الانقلاب من غير الوارد، أقله لسنوات، ما دامت آفاق التسوية أو التسويات، خاضعة لحسابات تتخطى قدرة البلد ومؤسساته المحلية.

ولكن مع هذه النتيجة، لا يمكن الجزم بكيفية مسار الأحداث، بعدما أصبح «الجند» ليس المدخل الذي يتطرق من خلاله الخلل إلى الدولة، وفقاً لابن خلدون، بل عنصراً من عناصر «الصدام الاجتماعي» بمعايير طبقية، نضالية.

تجربة العسكريين المتقاعدين تعبّر عن «طبيعة المشاركة» وشعاراتها.

ثمة متغيرات كبرى آتية، ولكنها لن تمرّ بلا دور ملموس للجيش اللبناني وقيادته!