كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
هل ثمة من يشك في أنّ لبنان قد دخل مرحلة الفوضى؟ إذا كانت ثمة شكوك ما زالت قائمة، ربما تكون زيارة واحدة لأحد المتاجر كافية لمعرفة كيف تدهورت حال اللبناني، من مواطن كان حتى الأمس القريب يعيش بكرامته الإنسانية، الى كائن يخوض معركة البقاء، في محاولته الحصول على سلعة مدعومة يصبر بها جوع أولاده!
لبنان في خضم مرحلة السقوط الحرّ على مسار الانهيار، وهو مسار مزدوج: الأول اقتصادي، ومشهديته تُختزل في التدافع بين المواطنين إلى شراء المواد الغذائية وتخزينها على سعر صرف يسابق يومياتهم، والتضارب في ما بينهم للحصول على سلعة أساسية مدعومة.
هذا المشهد لم يعد حالة شاذة تثير الدهشة، بقدر ما صار جزءاً من يوميات شعب، لطالما تبارى مسؤولوه على مناداته بـ»الشعب العظيم»!
ما يصيب لبنان هذه الأيام لم يكن ليتصوره عقل حتى الأمس القريب. لقد تجاوزت الحال كل التوقعات والتحذيرات، وباتت معها كل الصور التي كانت تأتي من فنزويلا وغيرها من الدول التي عانت ما عانته من انهيارات مالية واقتصادية، واقعاً معاشاً في كل لحظة.
معادلة «رايحين على جهنم» صارت واضحة: ليرة ينهشها دولار، تقلّبات تنهش السوق، سوق تنهش المواطن، فلا يجد الاخير حلاً إلّا بنهش اخيه، اما بإقفال الطرقات، أو بسرقات وعمليات «تشليح» تزداد وتيرتها بقدر ما يرتفع سعر الصرف. وبين هذا وذاك، قناصو فرص يستغلّون الفرصة لممارسة شعائر الإحتكار المعروفة.
كل ما يجري ليس سوى «بروفة» للفوضى الكبرى. فبين دولار لا يجد من يلجمه، وتحذيرات من ارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية، في ظلّ إقفال بعض المتاجر أبوابها، يمكن توقّع الأسوأ في حال توقف الاستيراد من الخارج، ما يعني أنّ المجاعة قد تصبح واقعاً لا مجرد تحذير!
ليس الإنكشاف الأمني الذي تحدث عنه وزير الداخلية محمد فهمي، والذي يُنذر باحتمالات شديدة الخطورة، مجرد كلام للاستهلاك الاعلامي. كل المؤشرات تشي بذلك، ويوماً بعد يوم يتحول لبنان الى «عصفورية» تحكمها الفوضى وشريعة الغاب.
المسار الثاني للانهيار، هو المسار السياسي، ويصح توصيفه بالإنحطاط، حيث تقف الدولة، أو ما تبقّى منها، عاجزة عن ضبط الوضع العام، فلا تحرك ساكناً لوجع الناس إلاّ بإجراءات تافهة، على شاكلة قرار اقفال المنصات الالكترونية، متجاهلة أنّ وقف الانهيار يبدأ بكلمتين: تشكيل الحكومة.
ليس المعنيون غائبين عن السمع، كما باتت الكليشيهات الصحافية تصف إنكارهم لوجع الناس. ثمة سبب منطقي للقول إنّهم باتوا يتلذذون بهذا الوجع، فيقفون في أبراجهم العالية وهم يشاهدون روما اللبنانية وهي تحترق أمام اعينهم، فيزيد استمتاعهم بالمشهد، كما لو أنّهم يشاهدون عرضاً للألعاب النارية!
السؤال الذي يُطرح اليوم: ما الذي ينتظره القائمون على حكم البلاد والعباد لكي يشكّلوا الحكومة؟ وهل ينبغي الانتظار حتى نرى الناس في الشارع، وبطونهم منتفخة بفعل الجوع، كما كنا نشاهد قبل أعوام في الصومال، التي، وللمناسبة، نجحت في أن تستعيد مقومات الدولة، في الوقت الذي كان فيه لبنان ينحدر يوماً بعد يوم الى مصاف الدول الفاشلة؟
لكن هذا السؤال سيصبح ترفاً خلال أيام معدودة، ليصبح: الى أي مدى ستبقى الطبقة الحاكمة قادرة على مواجهة شعبٍ موجوع، ما عاد هناك شيء ليخسره، وبات جاهزاً لكلّ أنواع الشغب والفوضى، وهو ما سيفرّق بين احتجاجات الغد وكل ما شهده لبنان منذ 17 تشرين الأول حتى اليوم.
الكل يريد شراء الوقت على حساب لقمة عيش اللبنانيين – وربما على حساب دمائهم – ومع فشل كل الوساطات والمبادرات في لبنان، وإطاحة كل المحاولات التي سعت إلى بناء مساحة تفاهم بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري حول الحكومة الجديدة، بات مؤكّداً أنّ لبنان سيبقى محجوزاً داخل نفق التعطيل، لفترة لا سقف زمنياً لها، مع ما يرافق ذلك من انهيارات متتالية على كل المستويات.
بهذا المعنى، يصبح الحديث عن مبادرة فرنسية أو مبادرة روسية مجرد ضرب من ضروب العبث السياسي. الفرنسيون ومعهم المجتمع الدولي عموماً قالوا كلمتهم: لا مساعدات للبنان من دون إصلاحات، مدخلها تشكيل الحكومة الجديدة. واما الروس، فجلّ اهتمامهم هو الوضع في سوريا والإقليم، حيث لبنان يبقى تفصيلاً، لا بل صداعاً يمكن تجنّبه طالما أنّه ما زال محصوراً داخل الحدود اللبنانية.
هكذا تصبح المعادلة واضحة، وقد لخّصها جان ايف لو دريان بكلمته الشهيرة «ساعدونا لكي نساعدكم». ولكن كل العبث السياسي القائم اليوم لا يشي بأنّ الرسالة قد وصلت، بدليل أنّ ثمة من هو مستعد للذهاب بالبلد الى الخراب، خدمة لحصّة هنا وطموح رئاسي هناك، وكيدية سياسية مدمّرة، بات معها البلد مهيأ لكل السيناريوهات المتطرفة، على نحو يجعل الخطر على الكيان اللبناني يتجاوز التنظير، ليصبح شبحاً يحوم في السماء اللبنانية الملبّدة بدخان الإطارات المشتعلة.