رسم «حزب الله» من موسكو إلى بيروت، حدود المسموح واللامسموح عنده، في لعبة متغيرات، جعلت من الجزء بعض الكل، في منطقة الصراعات الممتدة من السهوب الأوراسية إلى ضفاف الدردنيل، وبلاد ما بين دجلة والفرات، وصولاً إلى وادي البقاع، ونهر العاصي، وجبال السلسلة الشرقية، ومنها إلى جبال طوروس في هضبة الأناضول.
في موسكو، بدت الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكا) تتحكم في المحادثات الدبلوماسية – النيابية، في الخارجية الروسية ومجلس الدوما، وإن كانت بعض وسائل الإعلام هناك، تحدثت عن وفد حزبي – أمني، وإن كان ترأسه رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، الذي قدّر له أن يتولى هذه المهمة، بعدما أصبح الممثل الرسمي لحزب الله إلى طاولة الحوار الوطني، وفي لقاء قصر الصنوبر في 2 أيلول الماضي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، صاحب «المبادرة الشهيرة» المتعلقة بالسعي لإخراج لبنان من دائرة الانهيار، قبل أن توشك مبادرته لتأليف «حكومة مهمة» على الانهيار.
يُدرك المحدّث اللبناني، إلى طاولة سيرغي لافروف بحضور مساعده لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف أنه أمام قوة عظمى، سجّلت حضورها من سوريا إلى الخليج والبلقان بقوة التدخل العسكري المباشر، وأن الدبلوماسي المهتم بشؤون لبنان، يتابع على نحو دقيق ما يجري، وتربطه علاقة صداقة، غير خافية مع الرئيس المكلف سعد الحريري، وهو يتمسك بدوره في الحياة السياسية اللبنانية ليس بوصفه رئيس كتلة نيابية، أو المرشح الرسمي لتأليف حكومة جديدة، بل بوصفه قوة سياسية تمثل «الاعتدال الإسلامي السني» في عالم تسوده الصراعات الكبرى، والتي فيها تستخدم كل أنواع الأسلحة، بما فيها أسلحة الإعلام والدعاية السوداء، وحتى الصفراء.
ليس من السهل، اكتشاف أو الكشف عما دار في محادثات «الوفد الشيعي»، الذي يذكّر، مع بعض التباعد بالشبه، مع زيارات الوفود، من لبنان وسوريا والعراق، ودول عربية أخرى، إلى موسكو «الرفاق السوفيات» أيام الشيوعية، التي كانت تنظر إلى ما يجري في العالم الثالث على أنه بلدان «حركات التحرر الوطني»، وبلدان التطور اللارأسمالي (وفقاً لأسوأ التقليعات النظرية للسوفياتي بوريس بونا ماريوف).
لا يعني رئيس الدبلوماسية الروسية أن حزب الله هو حزب مقاومة، أو حركة تحرير… ما يهم أن الحزب، هو قوة عسكرية حليفة، على أرض مشتركة، ولو محددة في سوريا، بوجه الحلف الأميركي الغربي، وقوى «داعش» المسلحة، والمعادية للروس والمحور الإيراني، بكل فصائلها، المدموغة «بطابع الإرهاب».
لا حاجة للاستطراد بما خلصت إليه المحادثات الحزبية – الروسية، وسط تكهنات ومعلومات أن النتائج كانت مخيبة لآمال وفد حزب الله، في ظل ما تردد عن رغبة روسية بانسحاب الحزب عسكرياً من سوريا، في إطار ترتيبات إعادة التموضع الإيراني العسكري، مع الفصائل الحليفة من العراق وأفغانستان وآسيا السوفياتية السابقة… وفي إطار دور معالجة الضربات العسكرية الإسرائيلية على مواقع تابعة للتشكيلات العسكرية الإيرانية وحزب الله، ولا سيما في الجنوب السوري.
البعض ذهب إلى ربط مواقف السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، بما جرى في محادثات موسكو، والبعض الآخر ربطها بالمخاوف الجدية من انقلابات جذرية في «الواقع اللبناني» تحت ضربات الشلل السياسي، وقصف «الدولار السياسي»، الذي سجّل ارتفاعات مذهلة، في أيام قليلة، فارتفع إلى عتبة الـ15000 ليرة لبنانية، بقفزات لم يشهدها انهيار سعر صرف الليرة، في سوق القطع، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وخروج «الشعب الجائع» أو المهدد بقوته، وعمله، وأمنه، وتعليم أولاده، وصحته، وبيومه وغده، إلى الشوارع: قطعاً للطرقات، وإحراقاً للدواليب، والأخطر أن جانباً من الشعارات كانت تستهدف «حزب الله» ليس بوصفه «مقاومة» مترفعة، بل بوصفه «سلاحاً غير شرعي»، وقوة احتلال، وتحميله كل المصائب، والنوائب، والكوارث، والحصار المفروض على البلد وأهله، ومصارفه، وطلابه، وكل أشكال الحياة فيه.
قرّر نصر الله، تغيير طريقة التعاطي، مع الوقائع الحادة، القائمة والشاذة أيضاً… فلجأ إلى «وقائع الإقناع»، ملوحاً بانقلاب على خيارات المرحلة السابقة، المعالجة بالتي هي أحسن، ودفع البلاء بالدعاء، والصبر والانتظار.
نفد صبر «حزب الله»، فبعث السيد نصر الله، انطلاقاً من جملة مسلمات و«ثوابت» في المشهد بإشارات تحوّل، سارع البعض لوصفها بـ«غرفة عمليات وأوامر»، ولكن من وجهة منطق الصراع والمواجهة، كان يعني المضي بسكوته انتحاراً!
من الثابت، أنه وفقاً للوقائع الماضية، وما يجري اليوم، في البلد منذ تحركات 17 (ت1) عام 2019، أن دور «حزب الله» الإقليمي، بات على الطاولة، إذ لا يمكن السماح باستمراره، ولا سيما في اليمن «الحوثية»، وسوريا «حكم آل الأسد» الذي ينزع للبحث عن فترة حكم إضافية، بدعم من «سيد الكرملين» فلاديمير بوتين، الذي بعث «برسائل هزء» الأسبوع الماضي إلى الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن، الذي توعد بمحاسبته إذا ثبت تدخله بالانتخابات الأميركية أيام دونالد ترامب.
التمس السيد نصر الله المخاطر، وأن استهداف دوره الإقليمي، منطلقه في بلده، في لبنان، من الجنوب إلى الضاحية الجنوبية، والبقاع الشرقي، المفتوح على العمق السوري، مروراً بالعراق إلى طهران، التي تقاتل على جبهة الملف النووي الإيراني، ضمن حركة دبلوماسية، أدخلت المنظومة الصاروخية الإيرانية بالمعادلة، فضلاً عن الدور الجيو- سياسي والجيو-اقتصادي، والجيو-عسكري لطهران في الشرق الأوسط، وصولاً إلى «بلاد السند هند» المتاخمة لدول آسيا السوفياتية السابقة، أرض الإسلام الآسيوي في الشرق الأقصى.
دعس السيد نصر الله على الخطوط الحمراء، وسمّى الأشياء بأسمائها، معلناً انحيازه إلى قصر بعبدا والنائب جبران باسيل، ومعلناً في الوقت نفسه ما يقبل وما لا يقبل:
1-لا يقبل أن تمضي القوى الأمنية تتفرج على قطع الطرقات. بإمكان الجيش اللبناني منع إقفالها.
2- لا يقبل أن يمضي سعر صرف الدولار بالارتفاع، وأن يقتصر دور مصرف لبنان على التفرج، داعياً الحاكم رياض سلامة إلى التدخل لوقف «النار الحارقة»!
3- لا يقبل أن يبقى حسان دياب رئيس حكومة تصريف الأعمال، واقفاً أو جالساً، يتفرّج على التفلت والانهيار في الأمن والدولار والأسعار، بانتظار الانفجار الكبير، وبإمكانه دعوة حكومة تصريف الأعمال للاجتماع.
4- لا يقبل أن يبقى التأليف، بلا زمن، ولا حدود معقولة، فلا بد من وقت، ويقتنع الرئيس نبيه بري بضرورة التعديل الدستوري، لجهة ما يطالب به التيار الوطني الحر.
أدرك وليد جنبلاط المخاطر، والإشارات الحمراء، فاستدار إلى التسوية.
أما الرئيس الحريري، فهو يضرب الأخماس بالأسداس، في لعبة تخطت الخط الأحمر، ليأخذ القرارات الصعبة، قبل أن يصير للبحث صلة!