كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
إنشغل اللبنانيون بمتابعة الحراك الديبلوماسي الذي بلغ الذروة في الايام القليلة الماضية، يحدوهم الامل في امكان التوصل الى مخرج للمأزق الحكومي، عقب «الإثنين – الأسود» الذي انتهى الى شبه قطيعة بين المعنيين بعملية التأليف. ولكن ما بقي خافياً عليهم، انّ الحملة الديبلوماسية وما رافقها من تسريبات، انتهت، بعدما عززت الشكوك بقدرات اللبنانيين على إدارة شؤونهم. فكيف تمّ التوصل الى هذه النتيجة؟
ثبت بما لا يرقى اليه شك، انّ الحركة الديبلوماسية التي شارك فيها اكثر من ديبلوماسي عربي وغربي، لم تكن بمبادرة من اي منهم، فقد سبق لهم ولحكوماتهم ان رسموا خريطة الطريق امام اللبنانيين المؤدية الى التعافي والإنقاذ، ولم يعد لديهم ما يُقال في أداء المسؤولين اللبنانيين وردّات فعلهم، الذين لم يلتزموا اياً من تعهداتهم طوال السنوات الماضية وقبلها ان عاد بهم الزمن عقدين او ثلاثة الى الوراء.
فقد كان واضحاً، انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي اطلق شرارة الحملة الديبلوماسية الاخيرة، كان محفّزاً لها بعد فترة من القطيعة مع قصر بعبدا، وهو ما أوحى بالتباهي بزيارة السفير السعودي لبعبدا، واعتبارها انهاء لقطيعة ديبلوماسية طالت بين اليرزة، حيث مقر السفارة السعودية، وقصر بعبدا. فقبل هذه الحملة غاب الديبلوماسيون عن جولاتهم الرسمية، واقتصرت على تلك «الملزمة» منها، ومعها تلك التي كانت تفرضها الاصول الديبلوماسية والأعراف، في شكل ومضمون التعاطي مع الدولة المضيفة ومرجعياتها المختلفة. وبقي معظم الديبلوماسيين، وخصوصاً أولئك الذين يمثلون دولاً من خارج محور الممانعة، بعيدين كل البعد عن قصر بعبدا، باستثناء تلك التي فرضتها زيارات مسؤولين وموفدين رئاسيين وعسكريين وديبلوماسيين، أوفدتهم حكوماتهم الى لبنان لمهمات محدّدة في شكلها ومضمونها.
وما لم يكن خافياً على كثر ممن يتابعون بدقّة متناهية مظاهر القطيعة الديبلوماسية الغربية والعربية والخليجية منها بنوع خاص مع قصر بعبدا واقتصارها على الضروري منها، انّ هذا الاسلوب المعتمد جهاراً كان نتيجة حتمية لما بلغه الوضع المأزوم بين لبنان الرسمي ودولهم. فبعد انغماس قسم من اللبنانيين في ازمات المنطقة من سوريا والعراق الى اليمن، وتضامن رئيس الجمهورية وتياره معهم، من باب دعمه السلاح غير الشرعي وتسميته «سلاح المقاومة»، على خلفية التشكيك المستمر في عدم توافر القدرات الكافية لدى الجيش اللبناني، ليكون ومعه القوى الشرعية الأمنية الاخرى، المسؤول الوحيد عن أمن الجنوب والحدود والداخل اللبناني، تراجعت الثقة بين هذه الدول ورئيس الجمهورية، وبدأت القطيعة المعلنة التي تجلّت في اكثر من مناسبة.
وإن توسّع التوصيف لشكل العلاقات القائمة بين بعبدا ومعها مرجعيات سياسية أخرى موالية لها من جهة، وسفارات دول عدة من جهة اخرى، فهي تعود جذورها الى تجاهل المسؤولين اللبنانيين مضمون تقارير المؤسسات الدولية، وتلك المكلّفة تصنيف مستوى القطاع المصرفي والموازنة العامة وحجم المخاطر المقدّرة نتيجة السياسات الادارية والمالية المعتمدة، التي ادّت الى الأزمات الاخيرة، وانهيار سعر صرف الليرة وتراجع قيمتها الشرائية الى اقصى الحدود المتوقعة. ويُضاف اليها جميعها – لتكون سبباً في تنامي القطيعة الى حدود الإهمال لمطالب لبنان – تجاهل مسؤوليه بازدراء ملحوظ ما رسمته المؤتمرات الدولية التي خُصّصت لدعم لبنان، ومنها تلك التي نظمتها ودعت اليها مجموعة الدول والحكومات والمؤسسات الدولية والاقليمية المانحة للبنان، من إجراءات وخطوات تؤدي الى تجاوز العجز في كلفة الدين العام ومكافحة الفساد والتهرّب الضريبي وضبط الحدود والمعابر ووقف اعمال التهريب للاسلحة والممنوعات بين لبنان وسوريا وإعادة التوازن الى الميزان التجاري وتقريب حجم المصروف مع المداخيل الرسمية، قبل ان تتفاقم الأزمة الاقتصادية والنقدية، لتضيف المخاطر الناجمة عن «جائحة الكورونا». ولا تتجاهل التقارير الدولية طريقة مساعدة لبنان لتجاوز النكبة التي نجمت عن انفجار «عنبر الفساد» في مرفأ بيروت.
وبالعودة الى الحركة الديبلوماسية الاخيرة، فقد ظهر جلياً ما يمكن ان تؤدي اليه، ان بقيت بتشجيع وإلحاح من الجانب اللبناني، من دون توفير ما يحفّز الديبلوماسيين العرب والغربيين الى استعادة نشاطهم الطبيعي في لبنان، وهو أمر تقع مسؤولية الوصول اليه على عاتق المسؤولين اللبنانيين، عندما يبدون قدرتهم على إدارة ملفاتهم الداخلية من دون وصاية احد من الخارج. فلا طهران ستراعي مصالح اللبنانيين عند الحل النهائي، ولا الرياض وواشنطن وباريس. وعدا عن ذلك، فإنّ مهمة تشكيل الحكومة تقع على عاتق رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف وليس سفراء اي دولة اخرى صديقة او شقيقة، وهو أمر لا يمكن الرهان على نتائجه ان بقيت الامور تُدار في الشكل الذي شهدنا نماذج منه في الايام الاخيرة الماضية.
وان طُلِب من اصحاب هذا الرأي المثل، يعود الى الايام الاخيرة الماضية، ليتوقف عند مضمون التسريبات التي رافقت زيارة السفير السعودي لبعبدا ومحاولة تصويرها وكأنّها لنصرة عون في مواجهة الحريري، لا بل لإهانة الرئيس المكلّف سعد الحريري، عند الحديث المزعوم عن «فقدان الوفاء» لديه، وهو ما استدعى رداً قاسياً من السفير السعودي في اليوم نفسه، ذكّر فيه بالمبادئ التي تضعه في مواجهة رئيس الجمهورية وخياراته الحكومية والسياسية الداخلية والخارجية، وهو ما لم يرده السفير السعودي الذي كان يفضل ـ حسبما نُقل عنه – ان تبقى انتقاداته من ضمن الجدران الاربعة وفي الكواليس الديبلوماسية، فلا يضطر الى تذكير بعبدا والمسؤولين بالخطوط الحمر السعودية وضرورة تحرير «الشرعية اللبنانية من مغتصبيها»، وهو ما جعله في صف البطريركية المارونية التي استعار منها هذا المنطق بحرفيته.
وعليه، وبعيداً من الدخول في كثير من التفاصيل، فإنّ بعض التسريبات التي شهد لبنان نماذج منها في الايام الماضية، قد ادّت مفاعيل معاكسة لما اراده مطلقوها. فلبنان بلد صغير، والصالونات مفتوحة رغم اعتقاد البعض انّ ابوابها مقفلة، وليس في البلد سرّ يمكن اخفاؤه لفترة طويلة، كما هو معتمد في بعض الدول المتقدمة. وعليه، فإنّ الرهان على الحراك الديبلوماسي الاخير لإنتاج حل حكومي او اقتصادي ونقدي ما زال بعيد المنال، وانّ الحركة التي قامت من طرف واحد لم تؤت ثمارها، بدليل انّ كل ما بُني على الشائعات انتهى قبل ان يجف حبره.
ما هو ثابت، انّ البلد ينهار يوماً بعد يوم، وانّ الحملة الديبلوماسية التي أُطلقت لشرح الظروف التي ادّت الى عرقلة تشكيل الحكومة وتوضيح موقف رئيس الجمهورية منها قد انتهت، او انّها في الطريق الى تجميدها. ذلك انّ ما رافقها من تسريبات وحملات اعلامية متبادلة زرعت الشكوك في صدق المسؤولين وقدرتهم على ادارة شؤون بلادهم، الّا اذا كان القصد من تسريب المحاضر والجداول المزورة ومعها محاضر الجلسات المقفلة، كانت لمخاطبة الأتباع وانصار احزابهم وتياراتهم، وعبرهم الى عموم اللبنانيين الذين اهتزت علاقاتهم بمسؤوليهم الى درجة فقدان الثقة، وانّ استعادتها قد تكون مهمة شاقة وطويلة المدى.