كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
كما العهد كذلك “التيار الوطني الحرّ”، أو السلالة المتحوِّرة منه مع رئيسه المهندس جبران باسيل، ليس في أفضل حال. توغِل صورتاهما في الهبوط السريع السياسي والشعبي والتنظيمي. خلال أربعة أعوام ونصف من عمر العهد رمى الرئيس ميشال عون بكل رصيده على طاولة المراهنة على توريث باسيل في الرئاسة وفي “التيار”، ويكاد يخسر كل هذا الرصيد. ومع اقتراب ولاية الرئيس من الإنتهاء تتسارع عملية السقوط. المركب يغرق وهناك كثيرون يستعدّون للقفز منه على قاعدة العمل بمبدأ خلِّص نفسك.
بنى الرئيس ميشال عون وهج شعبيته على الشعارات الكبيرة التي لم يفلح في تحقيقها. منذ وصل إلى قيادة الجيش في نيسان 1984 بدأ يرسم طريق الوصول إلى قصر بعبدا متّكئاً على عملية تهيئة الجيش للولاء لشخصه وقيادته ليستخدمه في سبيل تحقيق طموحه، حتى لو كان الثمن كبيراً، وحتى لو كانت الشعارات قابلة للتغيير وفقاً للمصالح والتحالفات التي تُحقّق له هذا الطموح.
مرحلة الصعود إلى القمّة
في كل هذا المسار لم يكن هناك وجود لجبران باسيل. مشوار جبران الفعلي داخل “التيار” بدأ مع عودة العماد عون من باريس في 7 أيّار 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد الصفقة التي عقدها أواخر العام 2004 مع النظام السوري عن طريق رئيس الجمهورية العماد أميل لحود، وقد التزم فيها عدم التحالف مع قوى 14 آذار في الإنتخابات النيابية من دون الإعلان عن الخصام معها مقابل تعهّد بإقفال ملفه القضائي.
قبل هذه العودة، أيّام المواجهات مع عهد الإحتلال السوري والنظام الأمني التابع له في لبنان، كان باسيل بعيداً عن الواجهة بينما تولّى قياديّون في “التيار”، يعتبرون أنفسهم أنّهم يمثّلون الخطّ التاريخي، عمليات الحشد الشعبي والتنظيم والكودرة والتعبئة. كانت المسألة في تلك المرحلة تتطلّب الكثير من المخاطرة والتعرّض للملاحقة والإعتقال. منذ تلك العودة بدأ يصعد نجم باسيل وتغيب وجوه كثيرة من الذين كانوا يمكن أن يشكّلوا مزاحمة له. في ظل النظام الأبوي والعائلي لم يكن بالإمكان أن يزاحم أيّ كان من داخل التيار العوني جبران باسيل.
الخطوة الأولى التي وضعت باسيل على سكة الإرتقاء نحو تسلّم الأمانة من العماد عون كانت في اختياره ليكون الوزير الأول الذي يمثّل عون داخل الحكومات منذ العام 2008. إنقلاب “حزب الله” في 7 أيار 2008 هو الذي قاد باسيل إلى الحكومة. تفاهم 6 شباط في كنيسة مار مخايل في الشياح مع “حزب الله” لم يكن إلّا بداية طريق للإنتقال من مرحلة عون إلى مرحلة باسيل. تقريباً غاب الذين عملوا على هذا التفاهم وبقي باسيل. كثيرون من هؤلاء كانوا ينتظرون أن يكون العماد عون أباً للجميع لا أن يتّجه نحو التوريث العائلي في “التيار” وفي الحكومة وفي السلطة وصولاً إلى الرئاسة. تباعاً بدأ الذين يكتشفون هذا السرّ، الذي لم يكن سرّاً عند غيرهم، يبتعدون عن “التيار”.
إرادة الأب القائد
في العام 2015 حسم العماد عون الموضوع. ألغى الإنتخابات الداخلية في “التيار” عندما اختار باسيل مرشّحاً وحيداً لخلافته. بعد ذلك أظهر باسيل جموحاً غريباً نحو الإمساك بمفاصل “التيّار” وباللعبة السياسية وبالتحالفات حتى ولو كان ذلك على حساب كثيرين من الذين لهم سجلّات من النشاطات، وكان اللواء عصام أبو جمرة واحداً منهم. كثيرون خرجوا طوعاً أو أُخرِجوا بقرارات حزبية وكثيرون فضّلوا أن ينحنوا لقرار الجنرال من دون أن يقتنعوا بأحقية باسيل بأن يكون الأول بينهم، متقدّماً عليهم باشواط ومحوّلاً نفسه “عون” آخر لا مجرد خليفة له. وكثيرون من خارج دائرة “التيار” العتيقة دخلوا إلى عالم باسيل لتتكوّن حوله هذه السلالة المتحورة من “التيار” وهؤلاء يشكّلون جماعة المستفيدين من العلاقة مع باسيل ومن بقرة السلطة، وزراء ونواب ومعيّنين في مناصب ووظائف إدارية لا يحرّكهم ولاء لـ”التيار” أو لعون بل تشابك مصالح وخدمات. وهذه الظاهرة برزت في شكل كبير بعد تولّي العماد عون رئاسة الجمهورية. بدا لهؤلاء أن كلّاً منهم يمكن أن يكون رجل العهد. كانوا كثيرين حاول باسيل من خلالهم إعطاء انطباع بأن مؤيدي العهد يتزايدون بينما كانوا في الحقيقة يزايدون من دون أن يضيفوا أيّ رصيد له، بل على العكس فقد تركت عملية دخولهم على خط “التيار” انعكاسات سلبية واتهامات بالغرق في الفساد وتوزّع المكاسب، والإبتعاد عن الشعارات التي كان يرفعها العماد عون حول التغيير والإصلاح، بحيث بدا وكأنّ “التيار” بات جزءاً لا يتجزأ من منظومة الفساد عندما فاحت رائحة الصفقات والمحاصصة في الكثير من الملفات والتلزيمات والتعيينات. ولكن مع اقتراب العهد من انتهاء ولايته ماذا سيفعلون؟
الهبوط السريع: ماذا بعد عون؟
منذ ثورة 17 تشرين تركّزت الأضواء أكثر على باسيل. قبل ذلك التاريخ كان تباهى بأنّه مع “التيار” كالنهر الذي سيجرف من يقف في طريقه مهدّداً بقلب الطاولة على من يعترضه. كان قد التقى وقتها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله وقيل أن ذلك اللقاء دام سبع ساعات وأنهما بحثا فيه قضايا كثيرة، ربّما كان ملف خلافة عون في قصر بعبدا أحدها، ويبدو أنّ باسيل أخذ من خلاله جرعة زائدة من الشعور بالتفوق. الرئيس نفسه كان تعهّد أن يكون جبران خليفته عندما اعتبر أنّه الحصان الرابح في هذا السباق إلى القصر. كان ولا يزال يرى فيه أنّه خليفته المنتظر ولكنّ تلك الرغبة لم تكن إلا وجهة نظر لا ترتكز إلى أسس ثابتة ومتينة.
منذ 17 تشرين انفضّ كثيرون من حول “التيار” ومن حول العهد. كثيرون كانوا يُعتبرون من المدافعين عنه والمؤيدين له منذ العام 1989 خرجوا ليعلنوا أنّهم اكتشفوه على حقيقته، وأنّه قادهم إلى رهانات خاسرة وأنّه لم يحقّق ايّ وعد من وعوده الكثيرة، وأنّه فشل في الحكم وأنّ عهده أسوأ عهد. وزادت هذه الظاهرة بعد العقوبات الأميركية التي فرضت على باسيل تبعاً لقانون ماغنيتسكي المتعلّق بقضايا الفساد.
حتى أن الكثيرين ممن ارتضوا مونة الجنرال بتزكية باسيل باتوا اليوم لا يدافعون عنه وينتظرون سقوطه. ثمّة حالة انتظار لانهيار هيكل باسيل داخل “التيار”، ولا شيء يُبقي هذا الهيكل قائماً ولو متصدّعاً إلّا استمرار العماد عون على قيد الحياة. السؤال ماذا سيحلّ بـ”التيار” مع اقتراب خروج عون من قصر بعبدا؟ وكيف ستزداد حالات الفرار من “التيار” والقفز من المركب الذي يغرق؟
هناك من يتوقّع أن تزداد حالات الخروج وأن ترتفع حالات المعارضة لباسيل من دون تظهيرها بقوة على أساس أن “التيار” كلّه في حالة سقوط. ولو كانوا يحمِّلون باسيل مسؤولية هذا السقوط إلّا أنّهم لا يجاهرون به. هذه الحالة ستؤدي حكماً إلى انفضاض الذين تكوكبوا حول باسيل من أجل أن يكون ممرّاً لاستفادتهم من ركوب موجة العهد. معظم هؤلاء بدأوا يعيدون النظر في خياراتهم المصلحية ويحسبون أوضاعهم على أساس أن العهد سينتهي بعد عام ونصف وعليهم البحث عن مصلحتهم في مكان آخر.
طبعاً لا يمكن أن يبقى العماد عون في قصر بعبدا ولا يمكن أن يؤمّن انتخاب باسيل محلّه رئيساً للجمهورية ولا يمكنه أن يعود إلى دارته في الرابية ويستعيد رئاسة “التيار”. ما أورثه لباسيل لا يمكن أن يستردّه منه ولا يمكن أن يعيده باسيل إليه. السلالة الباسيلية تختلف عن السلالة العونية في “التيار”. ومع الخروج من الحكم وضعف سيطرة عون على القرار سيكون “التيار” عرضة للتشظّي والإنقسامات. من دون رعاية وتوصية العماد عون لا يمكن أن يستمر باسيل رئيسا لـ”التيار”. يمكنه أن يبقى رئيساً لجزء منه استفاد وتكوكب من حوله مؤمّناً مصلحته. وثمّة جزء سيكون معه باعتبار أنّه يعادي “القوّات” فقط. ولكن ثمّة من ينتظر هذا التراجع لكي ينقضّ عليه بعدما لاذ طويلاً بالصمت.
السفينة التي طالما تحدث عنها العماد عون وقال إنه ربّانها ولا يتركها، باتت سارحة في بحر من الرياح. وبات من مصلحة كثيرين كانوا على متنها أن يقفزوا منها وأن ينجوا بأنفسهم. إنها ساعة الحقيقة لمغادرة قطار “التيار”.