كتب رضا صوايا في “الاخبار”:
كثيرون اليوم يفضّلون تحصيل حقوقهم بـ«أيديهم». ليس فقط لانعدام الثقة بالعدالة، وإنما أيضاً لعدم القدرة على دفع «ثمن» هذه العدالة وتحمّل أتعاب المحامين. والمحامون باتوا غير قادرين على الاستمرار بسبب ذلك، وأيضاً لأن الأزمة المالية أدّت الى اقفال كثير من الشركات ووقف معظم المشاريع التي كانوا يصيغون عقودها ويتوكلون عنها. «جناح» العدالة الآخر، اي السلك القضائي، واقع أيضاً بين مطرقة انعدام الثقة وتدهور قيمة الرواتب. بالنتيجة، «الجناحان» يفتشان عن أول فرصة لـ«الطيران» والهرب بعيداً عن بلد كانت توصف عاصمته بأنها «أم الشرائع».
«قرف» المحامين والقضاة من «المهنة» عمره عقود، وليس ناتجاً فقط من تدهور قيمة رواتبهم وأتعابهم، وإن كانت هذه قد ظهّرت هذا «القرف» بشكل أوضح أخيراً. تُضحك كثيرين منهم تسمية «قصور العدل» التي تُطلق على مبان مهترئة. في بعض هذه «القصور» مراحيض قد تشكل أحد أبرز تجمّعات البكتيريا في العالم، ممرات مظلمة، ومصاعد (إن كانت تعمل) بلا إضاءة ترعب مستخدميها. في الشتاء «نشّ» و«طرطقة» مياه تتسرب عبر السقوف لتصبّ في «سطول» وُضعت بـ«ترتيب هندسي» لمنع تشكّل بحيرات اصطناعية!
حتى الأدوات البسيطة التي يحتاج إليها هؤلاء لممارسة مهماتهم بات متعذراً عليهم الوصول إليها. «أوراق الهامش» التي تُستخدم لكتابة محاضر المحاكمات بدأت تنفد، «وأحتفظ ببضع أوراق لأتمكن من فتح محاضر دعاوى جديدة» على ما ينقل أحد المحامين عن رئيسة قلم في إحدى محاكم الاستئناف. الطوابع الأميرية من فئة الألف ليرة مفقودة. ولأن القانون يفرض وضع طابع على كل مستند مرفق باللائحة، يضطر المحامون الى استخدام طوابع من فئة الـ 2000 أو الـ 5000 ليرة، ما يزيد من الكلفة بشكل كبير.
«في البلد زادت المشاكل، لكنها لم تؤدّ الى زيادة عمل المحامين» بحسب الوزير السابق زياد بارود. «أما من زادت أعمالهم، فلأسباب محزنة كما هي حال محامي الشركات التي تصرف موظفين مثلاً. رغم ذلك، فإن مداخيلهم لم ترتفع، إن لم تكن قد تراجعت». يوضح بارود أن الوضع العام، على مختلف الأصعدة، «يصعّب صمود المحامين. إذ إن المحاماة ليست تقاضياً فقط. فالمحامي يعمل أيضاً في مجال الاستشارات والتعليم الجامعي وتنظيم العقود وتأسيس الشركات والتوكل عنها وعن أي شخصية معنوية أخرى». واليوم، «كلفة التقاضي مرتفعة جداً. التقاضي حق من حقوق الإنسان، لكن الرسوم القضائية المرتفعة وأتعاب المحامين تصعّب لجوء الناس إلى القضاء لحل نزاعاتهم، ما ينعكس حكماً على المحامين. أضف إلى ذلك أن موجة الإفلاس التي طاولت عدداً كبيراً من الشركات أدّت حكماً إلى توقف عمل كثير من المحامين، وغياب الاستثمارات الداخلية أو الخارجية، وبالتالي عدم تأسيس أي شركات جديدة أو تنظيم عقود لمشاريع، وهي مهمات تشكل جزءاً مهماً من مداخيل المحامين».
يشير أحد المحامين الى أنه وكثيرين من زملائه «لم نعد نقبل قضايا لا تزيد تكاليفها على مليون ونصف مليون ليرة. قد يبدو أن في الأمر جشعاً في بلد يساوي الحد الأدنى للأجور فيه 675 ألف ليرة، لكن من يدرك التكاليف التي نتكبدها من تشغيل وإيجارات مكاتب ورواتب موظفين وأتعاب محامين متدرجين في مكاتبنا يعلم أن الأمر لا يستأهل قبول قضايا بأقل من مبلغ كهذا».
هذه الأزمة أدت إلى «هجرة عدد كبير من المحامين وإقفال كثير من مكاتب المحاماة، إما نهائياً أو للانتقال إلى مكاتب أصغر، وكذلك صرف عدد من العاملين للحد من النفقات»، وفق أكثر من محام تحدثت إليهم «الأخبار».
الوطأة الأثقل للأزمة تقع على المحامين الشباب، المتدرجون منهم والمحامون بالاستئناف. الفئة الأولى تتقاضى في الإجمال بدل النقل فقط، وأحياناً راتباً لا يزيد على مليون ليرة إذا كان صاحب المكتب كريماً. ولعل الأخطر من قلة المردود المالي هو النقص في الخبرة الذي سيعانيه هؤلاء بسبب التراجع الكبير في عدد القضايا التي قد يتسلّمونها لإحجام كثيرين عن توكيل محامين.
في هذا السياق، يلفت بارود الى أن «أعداداً كبيرة من طلاب الحقوق في السنة الرابعة، وخصوصاً المتفوقين، يهاجرون حتى قبل صدور نتائج الامتحانات الأخيرة، فضلاً عن مخاوف جدية من هبوط مستوى تعليم الحقوق في لبنان بسبب هجرة الأساتذة الجامعيين من محامين وقضاة».
الاستقالات من جهة القضاة لا تزال «قليلة» بحسب مصادر قضائية، «ولا يزال مجلس القضاء الأعلى يتريث قبل البتّ بها». إلا أن اللافت هو العدد الكبير من القضاة الذين تقدموا بطلب استيداع «وعددهم بالعشرات».
بحسب أحد القضاة. «طلب الاستيداع حق للقضاة كما الموظفين. ويحق للقاضي التقدم به لسنة قابلة للتجديد مرة واحدة. وهو يعني توقف القاضي عن ممارسة عمله القضائي وبالتالي عدم تقاضيه أي راتب وتقديمات طوال هذه الفترة. وهذه السنة لا تحسب له لاحقاً في سنوات التقاعد». ويوضح أن «أغلب من تقدموا بطلبات الاستيداع هم من القضاة الشباب الذين حصلوا على فرص عمل في الخارج برواتب تفوق بأضعاف ما يتقاضونه في لبنان وفي مجالات شتى، قضائية وتعليمية واستشارية». أما بالنسبة الى القضاة الأكبر سناً، «فيحق للقاضي بعد 20 عاماً أن يطلب إنهاء خدماته، مع احتفاظه بمكتبسات صندوق تعاضد القضاة وبالتغطية الصحية والتعليمية. أغلب القضاة ممن شارفوا على انقضاء هذه المدة الزمنية ينتظرون الموعد لينهوا خدماتهم. وأجزم بأن كل من مر على خدمته 20 عاماً جاهز للرحيل في حال حصوله على عرض مغر في الخارج». ويسأل: «كيف نلومهم إذا كان راتب القاضي بعد 20 سنة خدمة يساوي حوالى 6.5 ملايين ليرة، قبل حسم نسب منه للتقاعد وصندوق تعاضد القضاة وضريبة الدخل. فعلياً، صافي الراتب الذي يتقاضاه قاض بعد عقدين من العطاء لا يزيد على 400 دولار».
الوجهة الأولى لمعظم «المهاجرين» هي دولة الامارات العربية المتحدة حيث يسمح لهم بالعمل قضاة ومحامين ومستشارين قانونيين لشركات.
الخطير في ذلك، بحسب مصادر قضائية، أن انعكاسات الوضع الحالي ستظهر في السنوات المقبلة، «لأن هذا المسار يفرغ القضاء من الطاقات الشابة التي يفترض بها أن تتسلّم الدفة لاحقاً».
من يبقى إذاً نسأل؟ يجيب القاضي: «ربما الـ 1% من القضاة المستفيدين من النظام والمحسوبين على الأحزاب والسياسيين والذين يتقلّدون المراكز القضائية العليا»، لافتاً الى «ظاهرة أن أغلب طلاب الماجستير لم يعودوا متحمسين لدخول السلك القضائي، وكثيرون منهم يتحدثون عن صورة سلبية للقضاء في المجتمع. وهذا واقع بدأنا نلمسه. لا أبالغ بأن من كانوا يبدون احتراماً لنا حين كنا نعرّف عن أنفسنا، لا يتردّدون اليوم في توجيه الانتقادات لنا لأننا لا نقوم بواجباتنا في محاربة الفساد».