Site icon IMLebanon

ليس بالتمني وحده تَسقط المنظومة

كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:

في مقاربة تعقيدات الأزمة اللبنانية القائمة، ليس في محطّتها الراهنة والمستفحلة التي يقف «حزب الله» بالشراكة الكاملة مع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل دون حلّها، أي عرقلة تشكيل حكومة مهمّة إنقاذية تنتشل البلد مما يقبع فيه، ثمّة أمران لا بدّ من التنبّه لهما:

الأمر الأول: تجنّب الاستغراق من طرف الثورة بانتظار حلول سحرية لكل شيء من الخارج، سواء أكان هذا الخارج شقيقاً أو صديقاً أو صاحب مصلحة، وهو ما أشارت إليه السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا في حديث صحفي قبل أيام حيث قالت: «كفى مطالبة بكل شيء»، فكما تتبارى الطبقة السياسية بافتعال إشتباكات خبيثة وإلباسها لبوساً دستورياً أو طائفياً للاستحواذ على المكاسب والحصص وكوتا التعطيل، تغرق بعض أطياف الثورة، عن نيّة طيبة، بانتظار التغيير الآتي من المجهول كرمى لعيون طهوريتها!! وهذا أمر ينبغي أن لا يطلبوه، ولا يجب أن يتوقعوه أصلاً، لأن العالم منشغل بقضاياه الأكثر أهمية وإلحاحاً سواء لناحية كورونا أو الاقتصادات المهزوزة وغيرها.

أخطبوط الفساد

الأمر الثاني: هو أن المعركة القائمة لتحرير البلد من خاطفيه، ليست معركة سياسيّة ودستورية فحسب، فالمنظومة المتسلّطة المُمسكَة بخناق البلد لا تخطف السيادة والقرار الوطني ومؤسسات الدولة فحسب، بل تغوّلت على الاقتصاد والاجتماع وكل مناحي الحياة في التفافٍ أخطبوطي، وقلّما تجد عاملاً في الشأن العام إلا ويمتلك، شركات تتعاطى كل شيء، وهذه المسألة ليست تفصيلاً في سياق المشهد اللبناني المعقّد والمنهار والمتآكل.

ما تكشفه برامج تلفزيونية استقصائية عن ثروات العاملين بالشأن العام في لبنان ممن تولوا مناصب وزارية أو نيابية أو إدارية علياً، وهم الآتون من أصول اجتماعية متواضعة غالباً لكنهم دخلوا نعيم السلطة من باب تحالفات المحاصصات والتسويات وشراكات الفساد والانتهاب، وتمرّسوا في الخلط بين الخاص والعام، كلّ ذلك أوصل إلى الانهيار والسقوط والعزلة.. هؤلاء ليسوا متحكّمين بالسياسة والأمن والقضاء والمصرف المركزي فحسب، بل في الاقتصاد والمال والمصارف والمستشفيات والتجارة والمحروقات ومشتقات النفط والتعليم الخاص والعقارات والتأمين والاستيراد والتصدير والصناعة والتجارة، هم المنظومة التي لم تكتفِ بسرقة المنح والمساعدات والمال العام، بل نهبت ودائع الناس وحاضرهم والاحلام.

إن التنبّه لهذه الأمور يوضح طبيعة المعركة، ويسهّل فهم خلفيات استبسال هذه التركيبة في الدفاع عن مكتسباتها، وإتقانها توزيع الأدوار فيما بينها للالتفاف على ثورة الشعب الموجوع، وبالتالي في طرح الخيارات والبدائل والمخارج. لم تكتف منظومة الفساد بتهميش الدستور، والعبث بطبيعة النظام، والتلطي بحقوق الطوائف، واستعداء الأشقاء والأصدقاء لمصلحة محاور تخريبية، وتفشيل الثورة، وتجويع الشعب بعد إفقاره وقتله، وعرقلة العدالة.. بل سيطرت على كل هوامش الحياة العامة ولن تتخلى عن كل ذلك ببساطة.

حكمُ الجهالة

في حديث له قبل أيام، يقول النائب والوزير السابق ادمون رزق، أحد آباء الطائف وصنّاعه، إن «دستور الطائف جرى تعطيله وإهماله والطعن به من قبل الطبقة السياسية لمصلحة تكريس نهج المحاصصة والفئوية والشعبويات. نحن نعيش مزايدات لا تنتهي ناتجة عن جهالة مطبقة عند من يتولون المسؤولية، يجهلون الدستور والميثاق وكل همهم المحاصصة وتحصيل المكاسب والاستقواء بالخارج». وإذ يجزم بأن «لبنان ليس بحاجة إلى مؤتمر تأسيسي، فالبلد عنده دستور مثالي، وقوانين جيدة»، يعتبر أن «المطلوب فقط رجال دولة يطبقون الدستور ويحترمون القانون، ويتمتعون بصفتي المعرفة والإرادة، لأن من يحكم اليوم يتصفون بالجهل والتبعيّة».

السياسي والقانوني والدستوري العريق يرى أن «الرهان قائم على النخبة والشباب الذين نزلوا للساحات وأعلوا الصوت رفضاً للفساد، وعبروا عن إرادتهم بالعيش معاً عيشاً حضارياً متحرراً من كوابيس الماضي والفوقية والتنمّر، وهو رهان على استرجاع القرار الوطني من أيدي الجهالة والبغضاء»، مشدداً على إن إزاحة المنظومة المتحكّمة «لن يتم إلا عبر ضغط الشارع»، مقترحاً تركيز حركة الاعتراض على «الضغط باتجاه استقالة رئيس الجمهورية والنواب» للبدء بإعادة تأسيس سلطة تتمتع بالشرعية الشعبية والدستورية وتتولى الإصلاح.

كذلك، يؤثر عن الفقيه الدستوري النائب السابق حسن الرفاعي، أشهر من عارض على الدوام خرق الدستور أو استسهال تجاوزه، أنه في مقام إنكاره الاستخدام المبالغ به للدستور في الصراعات السياسية، يستشهد بقول العلامة الفرنسي الشهير ليون دوغي: «ليس للقانون الدستوري أي ضابط سوى حسن نية وأمانة الرجال الذين يطبقونه». وهنا يظهر الفرق بين السياسي ورجل الدولة.

البديل موجود

أيضاً وأيضاً، أمام مشهد استحضار العسكر لمواجهة الشعب المتألم والموجوع والثائر على أعتاب قصر بعبدا؛ إن الشرعية لا تُصان خلف جدران العزل، وبحماية الجيوش ومكافحة الشغب.. يروي المخضرم عبد الحميد الأحدب أنه في سنة 1952 طلب الرئيس بشارة الخوري من قائد الجيش (آنذاك) فؤاد شهاب أن ينزل الجيش لقمع المتظاهرين، فأجابه شهاب بأن الجيش للحدود وليس للداخل. فقدّم بشارة الخوري استقالته ومضى.

الدولةُ تدار بحكمة وتعالٍ وشفافية وكبرياء وسياسات وحرص، وليس بالغوغاء والثرثرة والشعبويات. الشعب يشتكي من الفساد، الهدر، تردي الأوضاع المعيشية، الفقر والتضخم والبطالة، من الدعم المنهوب والتهريب المشرّع، من ودائع الناس المسروقة، من الجوع والقهر والحزن، من جرائم ترتكب وتحقيقات تدور في حلقة مفرغة.. من حاضر مأزوم ومستقبل مجهول. لم يعد كافياً أبداً أن يتظاهر المتألمون يوماً للاحتجاج، ويتركوا المجال للغوغاء والطبقة السياسية كل الأوقات، انسدادُ الأفق يوجبُ سريعاً الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدماً في السعي للتغيير، تتطلب مشروعاً سياسياً مرناً وواقعياً، ورجال دولة مشبعين بفكرها وروحيتها، وإلى شبكة عربية ودولية داعمة، وصوغ خطة لمرحلة انتقالية قبل إعادة بناء المؤسسات على أسس من الشرعية الشعبية والدستورية، فهل من يسمع؟.