كتب غسان الشلوق في “الجمهورية”:
يضيع ملف ما يُسمّى «ترشيد الدعم» في مقدار كبير من اللامنطق واللادقة مع شيء من التسرّع وأشياء من سوء التصرف.
وثمة ثلاثة محاور لهذه الصورة:
اولاً: في المبدأ، فإنّ التحديد المتداول رسمياً يختصر الدعم، بما يعني سلعاً محدّدة هي المحروقات والادوية والقمح، واصناف من المواد الغذائية الاساسية وبعض نفقات القطاع العام الاخرى (فيول…) توفّر لها الحكومة ـ والأصح مصرف لبنان ـ العملات الاجنبية لاستيرادها بسعر مخفّض هو 1507,5 للدولار الاميركي (3900 للمواد الغذائية) وبمعدلات تتراوح بين 85 و 100 في المئة من الفاتورة الإجمالية.
وهذا التحديد يتنافى مع مفهوم الدعم بما هو، نظرياً، ان تتدخّل الدولة لخفض (او لرفع) اسعار بعض السلع الأساسية او لتقديم مساعدات معينة لفئات من المواطنين احياناً، لأهداف اجتماعية او اقتصادية عامة كمحاربة البطالة مثلاً. وبحسب هذا المفهوم، أفليس رفع اسعار بعض السلع الزراعية دعماً؟ أفليست الايجارات الزبائنية العالية الكلفة لمجموعات وشركات دعماً؟ أفليست النفقات الوهمية في الادارات والمجالس (وخصوصاً المجالس) دعماً؟ أفليس بعض المساعدات لطوائف مثلاً دعماً؟ أفليس زجّ آلاف العاطلين من العمل على انّهم عاملون نظرياً (وهم قلّما يعملون فعلياً) في أي ادارة أو مؤسسة أو جهاز دعماً؟
وبالتالي، فإنّ المقاربة السليمة لهذا الملف لا يصح إلاّ ان تكون شاملة، وكل مقاربة جزئية تبقى ناقصة وغير فعّالة.
ثانياً: انّ التقديرات المتداولة لـ»الترشيد» غير دقيقة وتنطوي على تخبّط، وربما ادّت الى نتائج عكسية والى مشكلة جديدة تشبه مشكلة الدعم الحالية. وبكلام أوضح، فإنّ الخطة الرسمية تقترح خفضاً جزئياً جداً للدعم، خصوصاً في السنتين الاولى (2021) والثانية يشمل الخفض غالبية السلع الاستهلاكية (باستثناء المازوت مبدئياً)، ووعود بمعالجة مشكلات معلّقة منذ زمن كالكهرباء و»وقف» التهريب. وتقترح الخطة دفع مساعدة مالية شهرية بالدولار النقدي (ولماذا بعملة غير وطنية) (نحو 120$ شهرياً في السنة الاولى كمتوسط للأسرة) وبواسطة بطاقات الدفع المصرفية للعائلات الفقيرة والمتوسطة الحال، التي قُدّر عددها بنحو 700 الف ثم 800 الف وربما لاحقاً 900 الف. كل ذلك مع استمرار الدعم بتقدير اولي لأكلافه قد يتجاوز 60 -70 في المئة من المبالغ المدفوعة حالياً.
ويطرح هذا البرنامج مجموعة كبيرة من الاسئلة، ويلقى كثيراً من الانتقادات العلمية والمستقلة: من يدير التنفيذ ويراقبه؟ هل هذه الإدارة الهزيلة التي تعثرت ولا تزال، امام مشكلة محدّدة هي كارثة المرفأ وبأعداد متضرّرين في حدود 6 في المئة من المستهدفين اليوم؟ وما هي الأكلاف المقدّرة للادارة والمراقبة؟ ومن يحدّد الأسر؟ وهل يُعتمد الاسلوب الزبائني نفسه؟ وكيف الوصول الى الأكثر فقراً بخطة تفترض التعامل مع الادوات الالكترونية والمصرفية في مناطق لم تتعرّف عليها بعد؟ وكيف نواجه انقسامات وطنية اضافية بسبب الممارسات القائمة؟ ولماذا ندفع في اتجاه تحويل الاقتصاد اللبناني الى «اقتصاد إعاشات وتسوّل» هرباً من الإصلاحات الواجبة؟ ولماذا يستمر التعامل مع السلع المدعومة بالمنطق الزبائني او المصلحي احياناً والمرفوض اقتصادياً ووطنياً، كما هي حال المازوت والكهرباء وبعض الادوية والمواد الغذائية؟
والاسئلة الاهم: من يموّل هذا البرنامج؟ هل مصرف لبنان عبر اموال المودعين، علماً انّ هذا المصرف يتحفظ عن أي مساهمة اضافية؟ هل الخزينة العاجزة اصلاً؟ هل المانحون الدوليون الذين يشترطون اصلاحات واسعة لدرس المساعدات؟ واخيراً ـ بل اولاً- لماذا نذهب الى كل هذه التعقيدات ونستبدل سياسة دعم خاطئة بسياسة خاطئة أُخرى لا توفّر واقعياً اكثر من 15-20 في المئة من الأكلاف الحالية حسب التقديرات القائمة اليوم؟ وهل نصل الى واقع كارثي يصبح معه اللجوء الى بيع أو رهن الاملاك العامة او الذهب امراً محتوماً، كما يشتهي بعض اصحاب المصالح وممثلي الفساد والهدر واعداء لبنان في الدرجة الاولى، وهذا التصور مرفوض ويكاد يشبه الجريمة الوطنية؟.
ثالثاً: لكن ما الحل؟ الحل ببساطة ممكن واساسه:
صدمة نفسية على شكل تأليف حكومة توحي الثقة للبنانيين وللخارج اولاً، ويمكن ان تنعكس تحسناً في المؤشرات المعيشية تتجاوز في وضوح التحسن الموعود عبر المساعدات المالية.
خفض جذري وتدريجي ومستمر لكل جوانب الدعم الاستهلاكي، بما فيها المازوت والفيول وأصناف المواد الغذائية والادوية «المحمية» بعد اختصارالاصناف بمقدار كبير.
وقف كل انواع الدعم غير الاستهلاكي حالاً، بما فيها التوظيف للاوظائف والمساعدات المختلفة والهدر، ومن شأن كل ذلك توفير تمويل يزيد حتماً عن المبالغ التي نطمح لتوفيرها اليوم.
عدم التسليم بـ»اقتصاد التسوّل والإعاشات» المطروح، بدعم قطاعات الانتاج، ولاسيما منها الصناعية والزراعية. ويفترض ان يخضع هذا الدعم الإنتاجي لشروط صارمة تتناول الاسعار والنوعية وحقوق العمال وسواها.
الانطلاق فوراً في اتجاه اصلاحات جذرية في السياسات الاقتصادية العامة والاجتماعية والمالية (ولاسيما منها الموازنة والضرائب)، توفر شروط اعادة النمو والتنمية، وتنطلق الى معالجة المشكلات الاساسية في الهجرة والسكن والنقل والطبابة، والشروع في بناء عقد اجتماعي جديد يصحّح الاجور ويحمي ديمومة الوظائف ويحدّ من مشكلات الاستقرار العائلي.
وهذه طريق ممكنة وواجبة لإصلاح بعيد عن الاوهام.